الاعتكاف الذى نريد
د/ عمرو الشيخ
– ما أجمل أن يخلو الإنسان إلى نفسه , ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة وتسبح روحه مع روح الوجود..
– ما أجمل الانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها ; والاتصال بالله , وتلقي فيضه ونوره , والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه , وترتيل القرآن والكون ساكن واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي . .
اكتشف الشهيد سيد قطب –رحمه الله – هذه الحقيقة فقال :
(( لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى . . لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت , وانقطاع عن شواغل الأرض , وضجة الحياة , وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة . فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له , فلا تحاول تغييره . أما الانخلاع منه فترة , والانعزال عنه , والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير , ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر , ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس , والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع ! ))
إن هذه الخلوة هى الزاد لاحتمال العبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر من يدعو بهذه الدعوة الطاهرة في كل جيل !
وينير القلب في الطريق الشاق الطويل , ويعصمه من وسوسة الشيطان , ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير
فما هى هذه الخلوة؟؟! إنها (( الاعتكاف )) !!!!
تلك السنة التى تعجب الزهرى رحمه الله ممن تركها فقال :
( عجباً للمسلمين ! كيف تركوا الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل )
فما هو الاعتكاف الذى نريد ؟؟!!!
– والاعتكاف الذي نريد هو اعتكاف الروح والجسد إلى جوار الرب الكريم المنان في خلوة مشروعة تتخلص النفس فيها من أوضار المتاع الفاني، واللذة العاجلة،وتبحر الروح في الملكوت الطاهر؛ طالبة القرب من الحبيب مالك الملك ملتمسة لنفحاته المباركات.
– الاعتكاف الذى نريد هو الخلوة الصادقة مع الله تفكراً في آلائه ومننه وفضائله، واعترافاً بربوبيته وإلهيته وعظمته، وإقراراً بكل حقوقه، وثناء عليه بكل جميل ومحمود.
– الاعتكاف الذى نريد قيام وذكر وقراءة قرآن، وإحياء لساعات الليل بكل طيب وصالح من قول وعمل.
– الاعتكاف الذى نريد فرصة للخلوة الفكرية التي يستطيع بها الداعية أن يحكم على مساره ويقيم إنجازاته:
هل ما زال يسير وفق الخطوة المرسومة إلى الهدف المحدد، أم مال عنه؟ وما نسبة الميل؟ وهل تراه يحتاج إلى تعديل المسار أم مراجعة الهدف وإعادة صياغته؟
إن فترة الخلوة الروحية في الاعتكاف عظيمة لتحقيق الخلوة الفكرية؛ إذ تكون النفس أقرب إلى التجرد من حظوظ النفس وأوْلى بمحاكاة المثالية التي تلفظ العادة الدارجة، ولكونها محطة توقف عن العمل يسهل استئنافه بعدها وفق الشكل الجديد الأسلم.
– الاعتكاف الذى نريد ليس هو الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين، وعناوين للمتزاورين، وموائد للآكلين، وحلقات للتعارف وفضول الكلام."كما يقول الدكتور العريفى "
– إن الاعتكاف الذى نريد هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف الصالح في كل همسة ولفتة.
– إنه الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين المتدبرين، وترفع فيه أكف الضارعين المتبتلين، ويسعى فيه صاحبه جاهداً لئلا تضيع من ثواني هذه الأيام لحظة واحدة في غير طاعة؛
– إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين يستغله المرء ليصل إلى مرتبة عالية، فيكون لسانه رطباً من ذكر الله تعالى، ويستعرض كتاب الله تلاوة وتأملاً وتفسيراً، ويصل إلى المراتب العليا في المحافظة على الصلاة تبكيراً وخشوعاً، ويألف مكابدة قيام الليل تلذذاً وخشية…
الآن وقد علمت الاعتكاف الذى نريد تعال معى وكن مع "ابن القيم " وهو يكشف لنا بعض أسرار الاعتكاف فيقول :
"لما كان صلاحُ القلبِ واستقامتُه على طريقِ سَيرِه إلى الله تعالى مُتوقِّفاً على جَمعِيتِه على الله تعالى، وكان فضولُ الطعامِ والشرابِ وفضولُ المخالَطة وفضولُ الكلام، وفضولُ المنام مما يزيدُه شَعثاً، ويُشتِّته في كلِّ وادٍ، ويَقطعُه عن سيرِه إلى الله تعالى، أو يُضعفه أو يُعوِّقه ويُوقِفُه؛ اقتضَت رحمةُ العزيزِ الرحيمِ بعبادِه أنْ شَرعَ لهم من الصومِ ما يُذهبُ فُضولَ الطعامِ والشرابِ.. وشرعَ لهم الاعتكافَ الذي مقصودُه وروحُه عُكوفُ القلبِ على الله تعالى.. فيصيرُ أُنسُه بالله بدلاً عن أُنسِه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأنسِه به يومَ الوحشة في القبور، حين لا أنيسَ له ولا ما يفرحُ به سواه؛ فهذا مقصودُ الاعتكافِ الأعظم. ولما كان هذا المقصودُ إنما يتم مع الصوم؛ شرعَ لهم الاعتكاف في أفضلِ أيام الصوم، وهو العُشرُ الأخيرُ من رمضان".
وفى الاعتكاف الذى نريد ندعوك أن :
1- تتلذذ بذكر الله :
قــــال مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ:
(ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله ـ عز وجل ـ فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً للقلب)
لأن للذكر فى الاعتكاف حلاوته , وللصلاة فيه خشوعها , وللمناجاة فيه شفافيتها . وإنها لتسكب في القلب أنسا وراحة وشفافية ونورا
فعلى العاقـل أن يجعـل من اعتكافه فرصة لتقويـة علاقتـه بكتـاب اللـه ـ تعالـى ـ قـراءة وتدبراً وخشوعاً وفهماً..
***********
2- تتقلل من الطعام :
فإن قلة الطعام توجب رقة القلب وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، كما أنها تطلق المرء من قيود الكسل والدعة والخمول.
فهى فرصة لك لتُربي نفسك على التقلل والتزهد في أصناف المطعومات وتجاهد نفسك عن الاستغناء عن كثير مما اعتدته
قال لقمان لابنه:
(يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة)
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة )
3- تعد كلامك من عملك :
فالاعتكاف فرصة ليتحرر المرء من فضول كلام، وكثرة هزل
فقد كتب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى بعض أصحابه:
(أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما ينفعه والسلام)
و جاء عن الحسن أنه قال:
(أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه)
و أنت فى الاعتكاف ندعوك أن تبحر مع البوطى فى بحر ابن عطاء :
( ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة )
هذه حكمة ذهبية من الحكم العطائية التي توزن فوائدها بأكثر و أثمن مئات المرات من الذهب و الماس .
ساق ابن عطاء الكلمة نكرة و لم يأت بها معرفة ب ( أل ) .. وبين النكرة و المعرفة فرق دقيق في المعنى .
فالعزلة ليست مرادة لذاتها و إنما هي مطلوبة لتكون مناخا و ظرفا مناسبا للتأمل و التفكير .
أي لو أن أحدنا أخذ الشطر الأول من الحكمة فألزم نفسه بمنهاج من العزلة يخلو فيها مع نفسه ساعة أو ساعتين كل يوم ، يعانق هذه العزلة لذاتها بعيدا عن أي ذكر أو ورد أو مناجاة.. بعيدا عن أي وظيفة فكرية .. فهو سلوك جانح مختل لايأتي لصاحبه بأي خير ،، بل هو بالأحرى سلوك ضار للنفس و مزهق للوقت .
العزلة المنشودة هي تلك التي تكون مناخا و مجالا للتأمل و التفكر فيما يفيد الإنسان و فيما يقربه إلى الله و فيما يعتقه من أسباب الشقوة التي تتربص بالإنسان
فالدعوة موجهة هنا إلى أمرين ( أحدهما وسيلة للآخر ) :- العزلة و التفكر .
أولهما يشبه الحمية بالنسبة للمريض و الثاني كالدواء . و الطبيب ينصح المريض بالأمرين و لن يكتمل العلاج وتتم الاستفادة ما لم يراعى الاثنين .
والمراد بالفكرة هنا الاشتغال بالموضوع الذي يقربه إلى معرفة ذاته و يوقظه إلى إدراك هويته عبدا مملوكا لله ومن ثم يقربه إلى معرفة ربه و يدنيه من محبة الله عز وجل و تعظيمه و تعظيم حرماته .
إذن فلابد من أن يشغل الإنسان نفسه في خلوته هذه بمادة تحقق له هذه الأهداف .. والأفضل أن تكون هذه المادة هي التأمل في ذاته .
من أنا ؟؟ كيف جئت لهذه الدنيا ؟؟ لماذا ؟؟ هل لدي هدف ؟؟ هل أسعى لأجل تحقيقه ؟؟ هل هو نبيل ؟؟ ربما أرحل فجأة ماذا صنعت في عمري الذي مضى ؟؟ ماذا جنيت من الملاذ التي تمتعت بها ؟؟
أتأمل في المتعة التي ذهبت لذاتها و بقيت مغارمها ،، والطاعات التي ذهبت أتعابها و بقي ثوابها .. أتأمل في هذا كله و أتساءل بصدق مع الذات وتوبة:-
لماذا لم أستكثر من الطاعات خلال عمري ؟؟ و أنظر ،، وإذا .. مازال بالعمر بقية تستنهضني لضرورة الشعور بالمبادرة الفورية لانتهاز الفرصة .. وهكذا أعاهد نفسي ،، بل أعاهد الله أن لا أضيع الثمالة الباقية من العمر .. وأن أسارع بالغراس
وقبل أن نختم تذًكري – أختي الحبيبة- أنه :
عندما نبتعد عن ذواتنا الحقيقية لمسافات بعيدة جدا تدفعنا فيها الدنيا دفعا فنسقط و قد صرنا مرضى بمشاغلها مرهقين بملذاتها .. حينها يصبح الاعتكاف ،،،،، عظيما و عذبا لأقصى حد .
وما أجمل أن نختم ونحن نهمس فى أذنك
أختي الحبيبة …
ارحلي عن الضجيج لمدة معينة يوميا .. ارتمي ساجدة عند خالقك مستشعرة عجزك و ذُلًك .. متأملة في عظمته و ضعفك .. اغسلي همومك بدعائك و دموعك .. وانضمي لقافلة… المعتكفين ..
أولئك الذين اعتكفوا الاعتكاف الذى نريد
منقول من : منتدى صيد الفوائد