الحمد لله الذي طهر بتأديبه من أهل تقريبه نفوسًا، وسقى أرباب مصافاته من شراب مناجاته كؤوسًا، ودفع كيد الشيطان عن قلوب أهل الإيمان، فأصبح عنها محبوسًا، وصرف عن أهل وداده بلطفه وإسعاده أذى وبوسًا، وأذل بقهره من شاء من خلقه أعناقًا ورؤوسا.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد أشرف الخلائق خلقًا وخُلُقًا، ومن تبع سنته واقتفى أثره، وسار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد:
فاعلم أيها الأخ المبارك أن وجودنا جميعًا في هذه الدنيا إنما هو لحظات … نعم إنها لحظات قليلة، وأنفاس معدودة، وأعمار قصيرة، وآجال محدودة. تنقضي وتزول، فكأن أصحابها ما ضحكوا مع الضاحكين، ولا عمَّرُوا الدور والقصور مع العامرين.
حدثني شيخ كبير (أحسبه من الصالحين ولا أزكي على الله أحدًا) عن حياته الطويلة (في أنظار الناس) وهي 98 عامًا، فكأنما هو يقول لي: دخلت من هذا الباب وخرجت من الباب الآخر.
يا الله …؟!
كم هم الذين يملون من طاعة علام الغيوب؟ لكنهم لا يملون من مجالس اللهو واللعب والفسوق والعصيان.
أوما سمعنا وصف الله – تعالى – في القرآن للدنيا. اقرأ، ولا بد أن تقرأ:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24].
واقرأ كذلك:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 46].
إذن فمتاع الدنيا قليل، سرعان ما ينتهي ويزول:
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38].
وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26].
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39].
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64].
وبين الله – تعالى – في القرآن جزاء من يخلد إلى الدنيا وينسى الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7].
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15].
وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [إبراهيم: 3].
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18]. وإليك هذا المشهد العجيب من مشاهد اليوم الآخر:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20].
نعم إنه مشهد سريع حاسم، يتضمن لفتة عميقة عريضة. مشهد العرض على النار، حيث يقال لهم قبيل سوقهم إليها عن سبب عرضهم عليها وسوقهم إليها:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا .
نعم لقد كانوا يملكون الطيبات، لكنهم استنفذوها في الحياة الدنيا، فلم يدخروا للآخرة منها شيئًا، واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابًا. استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام. ومن ثم كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة. واشتروا تلك اللمحة الخاطفة على الأرض بذلك الأمد الهائل الذي لا يعلم حدوده إلا الله – تعالى -:
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( ).
ومن هنا فقد تنبه الأبرار والصالحون للدنيا وفتنتها فطلقوها طلقة لا رجعة بعدها، واتخذوا الأعمال فيها ديدنًا وسلوكًا:
إن لله عبادًا فطنًا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنًا
تركوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سُفُنًا
ومن تأمل حال النبي تجاه الدنيا وزينتها وجد أنه قد زهد فيها أعظم ما يكون الزهد، وخير – عليه الصلاة والسلام – بين أن يكون ملكًا رسولاً، أو أن يكون عبدًا رسولاً فاختار أن يكون عبدًا رسولاً ( ).
وفي حديث أبي أمامة يقول – عليه الصلاة والسلام -: «عرض عليّ ربك – عز وجل – أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، وقال ثلاثًا نحو هذا، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك»( ).
ولم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف ( ).
وكما تقول زوجه عائشة – رضي الله عنها -: «ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله »( ).
وكان فراشه الذي ينام عليه أدمًا حشوه ليف ( ).
إذن كان رسول الله يمتثل الأوامر الربانية بالإعراض عن زينة الدنيا وما فيها كما قال تبارك اسمه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] كان يمتثل ذلك حق الامتثال.
فالنهي كما هو واضح من السياق الكريم موجه إلى الرسول حيث ينهاه ربه سبحانه أن يطيل النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والمتمتعين بها من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء الجميلة، فإن هذه الأمور مما يتمتع به الكفار وغيرهم ما هو إلا زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها بقطع النظر عن الآخرة القوم الظالمون. ثم تذهب تلك اللذائذ ويتلاشى ذلك المتاع.
نعم يمضي كل ذلك سريعًا، ويزول جميعًا، وتقتل الدنيا محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا يوم القيامة.
ولا تخلو الآية الكريمة من الموعظة البليغة، والنصح السديد حيث نجدها تذكرة بأن رزق الله تعالى خير وأبقى.
وكما تقدم فقد كان يمتثل أمر ربه، ويقنع بما آتاه الله تعالى ولا يتطلع إلى ما أعطيه الآخرون من المتاع الزائل، وفي الحديث الصحيح كذلك عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه دخل على رسول الله في تلك المشرُبة ( ) التي اعتزل فيها نساءه حين آلى ( ) منهن، فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير، فقال عمر: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم، وهم لا يعبدونه، فاستوى رسول الله جالسًا، فقال: «أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا»( ).
وهكذا كان – عليه الصلاة والسلام – أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها كما تقدم، وإذا حصل له شيء منها أنفقه هنا وهناك في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئًا.
ولقد تمثل الصحب الكرام والسلف الصالحون ما تمثله رسولهم فزهدوا في الدنيا، وتطلعوا إلى الآخرة، وباعوا أنفسهم. فقد كان عمر – رضي الله عنه – يوقظ أهل داره لصلاة الليل، ويصلي وهو يتمثل بهذه الآية: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131].
وكان الواحد منهم إذا أحسَّ أن في قلبه تعلقًا باليسير من الدنيا تأثر وأجهش بالبكاء.
فهذا عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة أُتى ذات يوم – كما ثبت في صحيح البخاري – بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فلم نجد ما نكفنه فيه إلا بردة، إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط، أو قال: أعطينا ما أعطينا. قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
بل هذا عمر – رضي الله عنه – كما يروي عمرو بن شبة في ترجمته أنه زار أبا الدرداء – رضي الله عنه – في ليلة من الليالي، فلما جلس إليه عمر قال أبو الدرداء: يا عمر أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله : «ليكن زاد أحدكم في الدنيا كزاد الراكب» قال: نعم. فقال: يا أخي، فماذا فعلنا بعد رسول الله فما زالا يبكيان حتى طلع الفجر!.
وهكذا أدرك أولئك الرجال خطورة الأمر، فشمروا عن ساعد الجد، وأيقنوا أن الحياة الحقيقية، والسعادة الأبدية إنما هي حياة الأبرار هناك. هناك في جنات النعيم.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108].
نعم ولأجل أن ينال القوم تلك السعادة الأبدية فقد زهدوا في مُتع الدنيا وكان الأمر الذي يشغل بالهم، ويسيطر على أحاسيسهم ووجدانهم أن ينالوا نعيم الآخرة، ولو أدى بهم ذلك إلى ترك لذة من متاع الدنيا الزائلة ولو كان مباحًا، مما لا يستطيع أحد أن يفارقه إلا إذا كان قلبه معلقًا بالدار الآخرة.
وهذا ما يذكرنا بقصة الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر، فقد كان عروسًا ليلة أحد، فلما سمع النداء، عجل بالخروج ولم يغتسل وقاتل حتى استشهد! وعندما رآه رسول الله قال: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» ولذا عرف بعد ذلك «بغسيل الملائكة» أو «الغسيل»( ).
وتأمل قصة أنس بن النضر – رضي الله عنه – كما في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن عمه أنس بن النضر غاب عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال لهم: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين – وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: أي سعدُ، هذه الجنة ورب أنس، إني أجد ريحها دون أحد، قال سعد: فما استطعت ما صنع، فقُتل يومئذ.
* وتأمل كذلك قصة الشاب الصغير معاذ بن عمرو بن الجموح يوم بدر الكبرى حين يقول:
سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجة – وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني، فعمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطّنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت – مرضخة النوى – حين يضربها بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عنه عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها فطرحتها!
* وهذا عبد الله بن مخرمة يوم اليمامة يدعو الله – تعالى – ألا يميته حتى يرى في كل مفصل منه ضربة في سبيل الله، فضرب في ذلك اليوم – يوم اليمامة – في مفاصله حتى استشهد، وكان – رضي الله عنه – فاضلاً عابدًا.
فهذه نماذج يسيرة من تطلع القوم للآخرة في مجال الجهاد والتضحية بالنفس، هذا فضلاً عن جهادهم بالمال كما فعل أبو بكر – رضي الله عنه – يوم أنفق ماله كله في سبيل الله، وكما فعل عثمان – رضي الله عنه – يوم جهز جيش العسرة، وحفر بئر رومة.
بل هذا فضلاً عن قضاء ليلهم بالصلاة وقراءة القرآن، ومناجاة الرحمن، كما يروى عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه كان إذا هدأت العيون، يقوم فيسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح.
وكما يروى عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه كان يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فيقول: لا، فيعاود ابن عمر الصلاة، إلى أن يقول نافع: نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح!
فهذا كله دليل واضح، وبرهان ساطع على عزوف القوم عن الدنيا وشهواتها وزخارفها وتطلعهم إلى الآخرة، وخوفهم رغم ذلك ألا تتقبل منهم أعمالهم.
نعم لقد كان الهم الذي يشغل بالهم، ويسيطر على أفكارهم ووجدانهم إنما هو العمل للآخرة، بالزهد في الدنيا، والإكثار من القربات، والتزود من الخيرات.
حالنا اليوم
وانشغل الناس اليوم بالشهوات، فارتكبوا المنكرات، وجروا وراء اللذات، وسيطر الهوى على كيانهم كله، فأصبح كثير منهم – إلا من شاء ربك – لا يعرف طريقًا إلى المسجد، ولا يهتم بالقرآن … قد ضرب بأمور الشرع كلها عرض الحائط، نعم أصبح الهم الذي يشغل باله، كيف يملأ بطنه بالحرام، وأذنيه بالحرام، وبصره بالحرام.
– المهم عنده أن يحصل على المال بأي طريق ولو كانت تلك الطريق الغش والخداع، ولو كانت التعامل بالربا، ولو كانت الكذب والزور والبهتان.
– والمهم عنده كذلك أن يتلذذ سمعه وبصره ولو كان المسموع والمنظور محرمًا، بل ولو كان ذلك على حساب تضييع الصلوات، وترك الواجبات. نعم أشغلت الناس اليوم الكرة واللاعبون، وكأن هموم الأمة المسلمة قد انكشفت، والحرب الموجهة إليها قد انتهت!!
وأشغلهم وقضى على شهامتهم ورجولتهم ومروءتهم تلك الدشوش التي قصد منها الغزو الصليبي والصهيوني التغريب الكامل، والإفساد الخلقي العام لكل بيت من بيوت المسلمين، وبخاصة الشباب الذي يؤمّل فيهم الإسلام أن يكونوا في الغد القريب هداة الأمم، وقادة الأجيال، وهادمي صروح الكفر والإلحاد، ومقيمي دين الله تعالى في كل أرض وتحت كل سماء.
وللأسف الشديد حصل بسبب غياب الوعي الناضج عن الأمة وقادتها ما أراده أولئك الخبثاء، فكان ما كان، وصار حال الشباب المسلم ما يصوره لنا الشاعر بقوله:
ما الدين؟ ما الخلق الرفيع وما الذي
تتعلقون به من الأسباب
ما عطف أمي؟ ما نصائح جدتي؟
يا ويحها، ما حسن ذات حجاب؟
هذه بقايا من زمان بائد
توحي بسوء جلافة الأعراب
لا تسألوني عن صلاة جماعة
كلا ولا عن سنة وكتاب
لا تسألوني عن نصيحة واعظ
يومًا ولا عن رحمة وعذاب
لا تسألوني عن مآسي قدسكم
وخليلكم ومدافع الأحباب
لا تسألوني عن سراييفو التي
حُرقت ولا عن صرخة المحراب
جاوزت كل حدودكم وسدودكم
وهجرت كل فضيلة وصواب
أقضي مسائي هائمًا مترقبًا
وأعيش عيشة حائر مرتاب
أتريد مني بعد هذا ركعة
تندى بذكر الخالق الوهاب
والسؤال الذي يطرح نفسه:
لَمِ لا يعي المسلمون بعامة وشبابهم بخاصة تلك الحملات الصليبية والصهيونية الموجهة ضد دينهم وأخلاقهم؟!
وهل يريد أولئك أن تسوء خاتمتهم كما ساءت خاتمة أناس قبلهم.
– أما يعلم المشغولون بالكرة واللاعبين بقصة الشاب الذي لما قفز وهو يشجع فريقه الرياضي قبض ملك الموت روحه في تلك القفزة، فما عاد إلى الأرض إلى ميتًا!!
– ثم ألم يعلم أولئك المنحرفون من أصحاب المسلسلات الخليعة، وسفرات الدعارة والفسوق، ألم يعلموا بقصة ذلك الشاب الذي سافر إلى «بانكوك» للزنا، وبينما كان في سكره وغيره ينتظر خليلته وقد تأخرت عليه، فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خرّ ساجدًا لها تعظيمًا، ولم ينهض من تلك السجدة الباطلة إلا وهو محمول على الأكتاف، وقد فارق الحياة، نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
النذر الدنيوية
كم يتعرض الواحد منا في هذه الدنيا للأخطار، وكم يواجه من أسباب الهلاك المحقق ولكنه لا يعتبر ولا يتعظ، وكم يرى من حوادث السيارات ما تتفطر له الأكباد، وتتألم له القلوب، فيظل في غروره تائهًا، وفي بيدات الغواية والضلالة هائمًا، وقد حصل له كل هذا البعد عن الرحمن، ومقارفة العصيان، والاستمرار في الطغيان؛ لأنه نسي الله تعالى والدار الآخرة، فكان الذي كان، نسي الله، فأنساه الله نفسه:
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67].
حتى إذا جاءت لحظة الوداع فإذا بالعمر ينقضي، ويفوت المراد … ويشخص البصر، ويسكن الصوت …
يا لله:
كان يعالج أشد الشدائد.
أدرج في الكفن، وحُمل إلى بيت العفن.
وبلغت الروح التراقي، ولم يعرف الراقي من الساقي، ولم يدر عن الرحيل ما يلاقي.
فقفل القوم بعدنا الأقفال، وبضعوا البضاعة، ونسوا ذكرنا بعد ساعة، وبقينا هناك إلى أن تقوم الساعة، لا نجد وزرًا ( ) ولا معاذًا: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 20].
فسبحان الله:
أنلهو وأيامنا تذهب
ونلعب والموت لا يلعب
عجبت لذي لعب قد لها
عجبت ومالي لا أعجب
أيلهو ويلعب مَنْ نفسُه
تموت ومنزله يخرب
نرى كلما ساءنا دائمًا
على كل ما سرنا يغلب
نرى الخلق في طبقات البلى
إذا ما همُ صعدوا صوبوا
نرى الليل يطلبنا والنهار
لم ندر أيهما أطلب
أحاط الجديدان جميعًا بنا
فليس لنا عنهما مهرب
وكل له مدة تنقضي
وكل له أثر يُكتب
إلى كم ندافع نهي المشيب
يا أيها اللاعب الأشيب
وما زلت تجري بك الحادثات
تسلم منهن أو تنكب
ستُعطي وتُسلب حتى تكون
نفسُك آخر ما يُسلبُ
والحل
إذا علمت ما سبق وأنك قد تؤخذ بغتة وأنت لا تشعر، فلا تستيقظ إلا على هول الطامة وفزع يوم القيامة، أفليس الأجدر بي وبك أن نستعد لما أمامنا من تلك الأهوال العظام والأمور الجسام، أن نستعد لذلك بتوبة نصوح ترضي الرحمن، وتجلب الغفران، يرجع العبد بعدها صافي النفس، طاهر القلب، مطهرًا من كل صغيرة وكبيرة.
فهل يا ترى نتوب قبل:
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 56-58].
ما بعد التوبة
واعلم أن العمل للآخرة والتشمير لدار القرار أعظم دليل على صدق التوبة، وطوبى – والله – لمن جعل الآخرة همه وغايته في الحياة الدنيا:
إن القريرة عينه عبدٌ
خشي الإله وعيشه قصد
عبد قليل النوم مجتهد
لله كل فعاله رشد
نزه عن الدنيا وباطلها
لا عرض يشغله ولا نقد
حذر حمى أكدار مهجته
ما إن له في غيره وكد
مستجهل في الله محتقر
هزل المخافة عنده جدٌّ
متذلل لله مرتقب
ما ليس من إتيانه بُدّ
رفض الحياة على حلاوتها
واختار ما فيه له الخُلْدُ
يكفيه ما بلغ المحل به
لا يشتكي إن نابه جهد
إذن فالأوّاب الصالح، والقانت الخاشع هو مَنْ جعل الآخرة، والدار الباقية مقصوده الأعظم في دنياه، فإذا ما فعل ذلك نال السعادة في الدنيا والآخرة.
وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19].
وليكن في البال والذهن وأنت تعمل لنيل هذا المطلب العظيم الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: إياك وطول الأمل:
إن الذي يتأمل أسباب الهلاك والخسران في الحياة الدنيا والآخرة يجده في طول الأمل بالبقاء في الدنيا، كما قال مالك بن دينار – رحمه الله -: «أربع من علم الشقاء: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا».
وتأملْ – أيها الأخ المبارك – ما وصف الله – تعالى – به اليهود والمشركين بقوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96].
يقول صاحب الظلال – رحمه الله – تعليقًا على الآية الكريمة: «… ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية، وتنضح بالتحقير والمهانة: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ … أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة، ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام!
إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة، فإذا وجدت المطرقة نكست، وعنت الجباه جبنًا وحرصًا على الحياة … أي حياة!
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة. وما أقصر الحياة الدنيا، وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة …».
ولا شك أن العبد إذا أنعم النظر بصدق في هذه الصفة المرذولة، والخصلة القبيحة التي اتصف بها اليهود والمشركون، وتدبر الآية الكريمة فسوف يقوده ذلك إلى قصر الأمل والزهد في الدنيا الفانية، والتسابق إلى الدار الآخرة الباقية الخالدة.
وإن قصص السلف في هذا المضمار لتنبئ المسلم الواعي بما يجب أن يكون عليه من قصر الأمل، فقد حكي أن امرأة حبيب أبي محمد قالت: كان يقول لي – تعني أبا محمد -: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا وكذا، واصنعي كذا وكذا، فقيل لها: أُري رؤيا؟ قالت: هكذا يقول كل يوم.
وعن إبراهيم بن سبط: قال لي أبو زرعة: لأقولن لك قولاً ما قلته لأحد سواك: ما خرجت من المسجد منذ عشرين سنة، فحدثتني نفسي أن أرجع إليه!
وقيل لبعضهم: ألا تغسل قميصك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك!
وقال محمد بن أبي توبة: أقام معروف الصلاة ثم قال لي: تقدم، فقلت: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: أنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى، نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع خير العمل.
* ذكر هذا كله ابن قدامة – رحمه الله – في مختصر منهاج القاصدين.وهكذا يتبين لنا من هذه الحقيقة الهامة أن الحذر من طول الأمل والاغترار بالدنيا له أثر كبير في إجادة العمل للآخرة، حيث يدعو صاحبه لأن يقدر أنه يموت اليوم، فيستعد استعداد ميت، فإذا أمسى شكر الله – تعالى – على السلامة، وقدّر أنه يموت تلك الليلة، فيبادر إلى العمل.
الحقيقة الثانية:
أن تعلم أن ما مضى من حياتك لن يعود ولن يعوض:
فإن كل يوم يمضي، وكل ساعة تنقضي لا يمكن لواحد منا أن يستعيدها، ولا يمكن له كذلك تعويضها، ولذا قال الحسن البصري – عليه رحمة الله :
«ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة».
ورحم الله الشاعر حين يصور لنا كيف يمضي العمر، وتذهب أيامه ولياليه بلا رجعة، ولا أمل في رجعة، فيقول:
وما المرء إلا راكب ظهر عمره
على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة
بعيدًا عن الدنيا قريبًا إلى القبر ( )
فإذا علمت – أيها الأخ الكريم – بأن ما مضى من الحياة لن يعود ولن يعوض أفلا يدعوك ذلك ويدعوني أن نقضي هذه الحياة القصيرة في طاعة الله، امتثالاً لأمر ربنا الذي يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
ثم ألا يكون لنا عبرة بمرور الأيام؟!!
نعم أما ينبغي لنا أن نتخذ من مرور الأيام والليالي عبرة لأنفسنا؟ أو لست ترى وأرى كيف يبلي الليل والنهار كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار. ويفنيان الكبار:
أشاب الصغير وأفنى الكبيــ
ر كرُّ الغداة ومر العشي
إذا ليلة أهرمت يومها
أتى بعد ذلك يوم فتي
نعم إن مضي الزمن واختلاف الليل والنهار لا يجوز أن يمر بالمؤمن وهو في ذهول عن الاعتبار به، والتفكير فيه، ففي كل يوم يمر، بل في كل ساعة تمضي، بل في كل لحظة تنقضي، تقع في الكون أحداث شتى، منها ما يُرى، ومنها ما لا يرى، ومنها ما يُعلم، ومنها ما لا يعلم، من أرض تحيا، وحبة تنبت، ونبات يزهر، وزهر يثمر، وثمر يقطف، وزرع يصبح هشيمًا تذروه الرياح، أو من جنين يتكون، وطفل يولد، ووليد يشب، وشاب يكتهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت!
ومن أحوال تدور على الناس كلما دار الفلك من فوق، أو دارت الأرض من تحت، بين يُسر وعُسر، وغنى وفقر، وصحة وسقم، وسرور وحزن، وشدة ورخاء، وسراء وضراء، وفي كل ذلك آية لمن كان له لُب، وذكرى لمن كان له قلب، وعبرة لمن كان له بصر: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [النور: 44].
أما من حُرم التفكر والاعتبار فلن يفيده هذا شيئًا ( ).
الحقيقة الثالثة:
اغتنم فراغك في عبادة ربك، وطاعة مولاك تنل سعادة الدنيا والآخرة فقد ثبت في الحديث الصحيح عن عمرو بن ميمون أن رسول الله قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»( ).
ورحم الله القائل:
بادر شبابك أن يهرما
وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عيشك قبل الممات
فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به
ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرئ قادم
على بعض ما كان قد قدما ( )
– وإن الواحد منا إذ تأمل أحوال السلف في قضاء الأوقات في طاعة ربهم وجد من ذلك ما تعجز عن سرده عشرات الصفحات، فهذا عبد الله بن المبارك (التابعي الجليل) يحدث عن سعيد بن سالم أنه قال:
نزل روح بن زنباع ( ) منزلاً بين مكة والمدينة في يوم صائف وقرّب غداءه، فانحط راع من جبل، فقال: يا راعي هلم إلى الغداء. قال: إني صائم. قال روح: أو تصوم في هذا الحر الشديد؟ قال: فقال الراعي: أفأدع أيامي تذهب باطلاً، فأنشأ روح يقول:
لقد ضننت بأيامك يا راع
إذْ جاد بها رَوْحُ بن زنباع ( )
وهذا محمد بن أشكاب الصفار، يحدث عن رجل من أهل داود الطائي ( )، قال: قلت له:
«يا أبا سليمان، قد عرفت الرحم بيننا وبينك فأوصني، قال: فدمعت عيناه، ثم قال:
يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهى ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زادًا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، وما أعلم أحدًا أشد تضييعًا مني لذلك، ثم قام وتركني»( ).
الحقيقة الرابعة والأخيرة:
أكثر من الدعاء واللجوء إلى الله – تعالى – ولا تملّ:
المنكسر بين يدي ربه، يدعوه ويناجيه، ويسأله التثبيت والتسديد، ويسأله إصلاح قلبه، وأن يصرف عنه الغضب والحقد والحسد وسوء الظن بالمسلمين.
ويسأله كذلك ويدعوه بخشوع وتعظيم أن يصرف عنه فتنة الدنيا، وشهواتها وشبهاتها، ويجعله من أهل الدار الآخرة، وممن يعمل لآخرته وكأنه يموت الساعة.
ذاك – والله – القلب الحي المنيب، الذي إن استحضر أسباب الإجابة نال بلجوئه إلى ربه سعادة الدنيا والآخرة، كيف لا وقد أثنى الله – تبارك وتعالى – على عباد هذا دعاؤهم:
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].
نعم يدعون ربهم أن يرزقهم من أزواجهم وأولادهم قرة أعين، أي من يعمل بطاعتك، فتقر به العين في الدنيا والآخرة، كما قال الحسن – عليه رحمة الله -: «وأي شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يطيعون الله، والله ما طلب القوم إلا أن يطاع الله، فتقر أعينهم»( )، ويدعون ربهم كذلك أن يجعلهم أئمة يقتدي بهم في العلم والتقوى ولقد كان جزاء هؤلاء الملتجئين إلى ربهم عظيمًا، جد عظيم: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [الفرقان: 75].
وبعد:
فتلك كانت كلمات موجزة، ولمحات خاطفة، قصدت منها دعوة نفسي وإخواني إلى التجافي عن دار الغرور – وقد علمنا سرعة زوالها وفنائها – والتشمير إلى دار السرور والحبور – وقد علمنا بقاءها وخلودها .
وإن الشقي ثم الشقي – والله – من يعلم أنه قد يموت الساعة ، ثم لا يعمل للدار الآخرة، فنسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله، ونعوذ به – جل جلاله – من أن نكون من أهل هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47] إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، والله تعاليت أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أخوك
عبد الحميد بن عبد الرحمن
* * * *
فهرس الموضوعات
المقدمة 5
حالنا اليوم 14
النذر الدنيوية 16
والحل 17
ما بعد التوبة 18
الحقيقة الأولى: إياك وطول الأمل: 19
الحقيقة الثانية: 21
الحقيقة الثالثة: 23
الحقيقة الرابعة والأخيرة: 24
فهرس الموضوعات 27
* * * *