السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لب نداء الفطرة
لبنى السحار
مقالات متعلقة
يُولَد الواحد منَّا ومعرفةُ الله تعيشُ في داخله، في قلبه وفي وجْدانه، بل تَجري مع كريَّات دمِه. وهذا ما قَصَده الرسول بقوله: ((كلُّ مولود يُولَد على الفطرة))، ولكن ظروف الحياة المُختلِفة، والنَّكسات المُتتالية التي تُصيبنا، وأسلوب التربية، وأولئك الذين يُحيطون بالفَرد من أهلٍ وأصدقاء، وكل ما حولنا من تغيُّرات وتطوُّرات – هو الذي يُغيِّر هذه الفطرة، ويَجعلها تَنحرِف.
ومع ذلك، فإنَّ الله يقول: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]، فالإنسان السويُّ مهما طالت فترةُ انقطاعه وبُعده عن ربِّه، هو الذي يَستطيع أنْ يُهذِّب نفسه ويَقودها إلى الطريق الصحيح، هو الذي يستطيع أنْ يعود إلى فطرتِه؛ الفطرة النقيَّة الطاهِرة التي خَلَقه الله بها.
ولكن كيف؟
بأن يزكِّي نفسه ويترفَّع بها عن رذائل الأمور، بأنْ يرتقي بها إلى المعالي، بأن يُقدِّر النفس التي بين جنبَيه، ويعلم عِظَم شأنها، وأنَّ الله أعطاه إيَّاها، لا ليُدنِّسها؛ بل ليَسموَ بها، وحينها سيَعود إلى الطريق المستقيم؛ طريقِ النور والهداية والسعادة، وسيَجِد حبَّ الله قد توغَّل في قلبِه ورُوحه، بل سيَجِد أنَّ حبَّ الله وحبَّ كلِّ ما يُحبُّه الله وما يُقرِّبه منه هو الهدف الأول في حياته، هو الغاية التي يَحيا من أجلها، وسيستمرُّ في السموِّ والرقيِّ إلى أنْ يصل إلى درجة النَّقاء، أو إلى (الفطرة).
وإذا وصَل الإنسان إلى هذه المرحلة، مرحلة النَّقاء، فإنَّه سيَفتَح قلبَه لله، وستُصبِح رُوحه طاهرة لا تعرِف إلا الله، ولا تنعَم إلا بقُربه، ولن يَلهَج لسانُه إلا بما يُحبُّه الله، ولن يسمع إلا ما يحبه الله، ولن يرى إلا ما يحبه الله، ولن يتصرَّف إلا بما يحبه الله؛ فتَنقلِب شخصيَّته وتتبدَّل، ويُصبِح إنسانًا بمعنى الكلمة، وهذا ما ذكَره الله – تبارك وتعالى – في الحديث القدسي: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحَبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ورِجْلَه التي يَمشي بها، وإنْ سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذَنَّه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن نفْس المؤمن، يَكرُه الموتَ، وأنا أكره مساءته))؛ أخرجه البخاري.
إنْ كنتَ كذلك، فسوف تتولَّد فيك قوَّة خفيَّة تَفعل الأعاجيب، تسيِّرك نحو الخير، وتُبعِدك عن الشرِّ، إنَّ حبَّ الله لا يعرفُه الكثير من الناس، فهم مأخوذون بِملذَّات الدنيا ومتاعها، إنَّ مَن تنعَّمَ بحب الله وبالتقرُّب إليه، يُدرِك ما أقوله، وإنَّه لَيحزن حزنًا شديدًا على هؤلاء الناس الذين نَسُوا الله، الذين لم يكن خالقهم يومًا من أولويَّاتهم، ولا هو موجود في قائمة اهتماماتهم، وما علِموا بأنَّهم لو عرَفوا ربَّهم لعرَفوا أنفسهم.
إنَّ مَن عاش في ظلِّ محبَّة الله يُشفِق على من هو بعيد عن هذا الطريق؛ إنَّه يَحزن على الذين لا يَرون ولا يشعرون بهذه الرحمة الإلهيَّة التي يُغدقها الله – عزَّ وجل – على من كان قريبًا منه، بل إنَّه ليتمنَّى لو أنَّ البشر جميعًا يُشارِكونه هذه اللَّذة؛ كما قال إبراهيم بن أدهم: "لو علِم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعيم، لجالَدونا عليه بالسيوف"، إنَّها السعادة بعينها.
تمرُّ على هؤلاء الناس الذين ذاقوا لذَّة القُرب من خالِقهم أوقاتٌ يقولون فيها لأنفسهم مُتعجِّبين مُستنكِرين: آه! كم هم مساكين هؤلاء الناس المُنغمِسون في ملذَّات الدنيا، البعيدون عن ربِّهم، الذين انقطعت صِلتُهم به منذ شهور أو أعوام، الذين قال الله فيهم: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7].
لو بحَث كلُّ واحد منَّا في أعماق نفسه، لأحسَّ بقُرب الله منه: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].
ابْحث عن الشعور بقُرب الله وبمحبَّة الله في خَلجَات نفسِك، ولن تُطيل البحث؛ فستجِده سريعًا، وإنْ وجدتَه، فاجعل هذا القرب وهذا الحبَّ هو الهمَّ الأول في حياتك، ومن ثَم سترى كيف ستتبدَّل حياتُك وشخصيَّتُك وأحوالك رأسًا على عقِب، وحينها ستدخُل جنَّة الدنيا، التي طالما كنتَ تَحلُم بدخولها.