لفضيلة الشيخ : محمد المنجد …
والتي تتكون من اثنا عشر درسا ……
(( الإخلاص, التفكر, التقوى , التوكل ,الخوف , الرجاء ,
الرضا , الشكر , الصبر , المحاسبة , المحبة , الورع ))
نضعها هنا بين ايديكم – وندعو الله ان ينفعنا بها واياكم – نقاط مختصرة للسلسلة ( تلخيص )
(( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء))((ألا لله الدين الخالص)).
الإخلاص هو لب العبادة وروحها، قال ابن حزم: النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد،
ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
والإخلاص هو أساس قبول الأعمال وردها فهو الذي يؤدي إلى الفوز أو الخسران، وهو الطريق إلى الجنة أو إلى النار،
فإن الإخلال به يؤدي إلى النار وتحقيقه يؤدي إلى الجنة.
فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب.
والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء.
وأما تعريف الإخلاص في الشرع فكما قال ابن القيم –رحمه الله -: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة أن تقصده وحده لا شريك له.
-أن يكون العمل لله تعالى، لا نصيب لغير الله فيه.
-إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة.
-تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين.
-تصفية العمل من كل شائبة.
المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عزوجل،
ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله. قال تعالى: ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء))
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ((قل الله أعبد مخلصاً له ديني)).
قيل للفضيل بن عياض الذي ذكر هذا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل وإن لم يكن خالصاً وكان صواباً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً،
والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون موافقاً للسنة ، ثم قرأ : ((فمن كان يرجو رحمة ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً)).
وقال تعالى: ((ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)) يعني أخلص القصد والعمل لله ، والإحسان متابعة السنة، والذين يريدون وجه الله فليبشروا بالجزاء
(( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه))،
(( ذلك خير للذين يريدون وجه الله ))
وأما أهل النقيض وأهل الرياء فإن الله ذمهم وبيّن عاقبتهم
(( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار))
وقد مدح الله المخلصين : (( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً))
قال صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنيات)) ، إنه أهم حديث،
علمنا إياه صلى الله عليه وسلم في كل شيء، في الصلاة والصيام والحج وغيرها
2-اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به : (( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة،
ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر عليه ))
3-مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فم امرأتك)) {رواه البخاري}.
4-ينجي من العذاب العظيم يوم الدين فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة وهم متصدق أنفق ليقال جواد،
وقاريء تعلم العلم وعلمه ليقال عالم، و مجاهد قاتل ليقال جريء..
الإخلاص يريح الناس يوم يقول الله للمرائين اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء.
كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل
كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء(( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً)).
يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم
ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك
وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
النية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عزوجل .
الإخلاص ينقي القلب من الحقد والغل ويسبب قبول العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه)).
الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذوب.
تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص ، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم ،
وكان منهم الرجل الذي وفى عاملاً أجره ونماه وصبر على ذلك سنين، وقد كان يقول كل واحد منهم اللهم إنك إن كنت تعلم أننا فعلنا ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للصواب والحق ((إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً))،
وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه((ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون)).
بالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله،
فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك
فالمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور،
لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز (( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين))
-في السجود : قال صلى الله عليه وسلم : ((ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط بها عن خطيئة)).
(( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)).
-في قيام الليل: قال صلى الله عليه وسلم : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
-الإخلاص في ترك الحرام،المحبة في الله، الصدقة….(حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
(( خرج للمسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطو خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت به خطيئة،
فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط كأحد ومن صلى ثم رجع قبل أن يدفن فإنه يرجع بقيراط)).
-الإخلاص في التوبة: (( قصة قاتل المائة نفس وملائكة الرحمة)).
ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة يريد أن يعرف الرجل لمكافأته،
ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً ، فعاهده، و كان يقول : (( اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة.
يقول حماد بن زيد : كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
للإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته
قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة،
فلما حضرته الوفاة بسط يده ، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق.
فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما سبق الناس بأنه كان أكثرهم صلاة وصيام بل بشيء وقر في قلبه.
قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
قيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي.
قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه
الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص
-إفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة.
-استواء عمل الظاهر والباطن.
-من تزين للناس فيما ليس منه سقط من عين الله.
-إنه سر بين الله والعبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده والله قد يعلم الملائكة ما يشاء من أحوال العبد.
-الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهداً إلا الله، وإذا داوم عليه الإنسان رزقه الله الحكمة
.
قال مكحول:
ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
.
:
إذا أخلص العبد انقطع عنه كثرة الوساوس والرياء
.
.
والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر}،
قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
المسألة فيها تفصيل:-
الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
-الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
-الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها
وإن كان لا يقوى فيخفي، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار (( لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
قال أبو بكر بن عياش لولده (( يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة))
من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح
2- ترك العمل خوف الرياء،
وهذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما
فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء،
وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره
3- أن من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس ؛
هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء،
فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صال
قال تعالى: (( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
ينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل ؟ إذا حصل تشريك فيه ، ومتى يأثم ؟ ومتى لا يأثم؟
1-أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر ( أعلى المراتب).
2-أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه ، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته
ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها
3-أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك:
أ-إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
ب-أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده،
فعمله صحيح وله أجر على جهادهجـ – أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل..
4-أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقطفهؤلاء أعمالهم باطلة
(( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن يريد ثم جعلنا له جهنم))،
5-أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم ،
فقال بعض السلف: (( إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص)) ، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
-رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
-تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.
-كتم الذنوب وعدم التحدث بها ، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب،
نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.
-اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله،
فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
-ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
2- أن يكون عمل السر أكبر من عمل العلانية.
3- المبادرة للعمل واحتساب الأجر.
4- الصبر والتحمل وعدم التشكي.
5- الحرص على إخفاء العمل.
6- إتقان العمل في السر.
7- الإكثار من العمل في السر
الدرس الثاني : التفكـــر
أعمال القلوب اهتم بها العلماء فصنفوا فيها المؤلفات ، وابتدؤوا أعمالهم بالتذكير والحث عليها. أعمال القلوب تحتاج إلى مجاهدة وعناية،
وبما أن النجاة مدارها على أعمال القلوب بالإضافة إلى أعمال الجوارح التي لابد أن تأتي إذا صحّت أعمال القلوب.
التفكر من أعمال القلوب العظيمة وهو مفتاح الأنوار ومبدأ الإبصار و شبكة العلوم والفهوم
وأكثر الناس قد عرفوا فضله ولكن جهلوا حقيقته وثمرته و قليل منهم الذي يتفكر ويتدبر
وقد أمر الله تعالى في التفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين فقال:
{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً }.
وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت : "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".
قال الحسن:" تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
قال الفضيل:" الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك".
قيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال:" الفكرة مخ العقل".
وقال الحسن: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو".
وفي قوله تعالى : {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال : أمنع قلوبهم التفكر في أمري .
وأشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في التأمل في أسماء الله وصفاته، وجنته وناره ، و نعيمه وعذابه ،
وآخرته وآلائه وآياته المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه وما خلق سبحانه و تعالى .
وما ألذ هذه المجالس وما أحلاها وما أطيبها لمن رزقها..
وقال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر.
وقال أيضاً: صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم على الرأي سلامة من التفريط والندم والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة
و مشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ، ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم.
وقال أيضاً : الفضائل أربع، إحداها الحكمة وقوامها الفكرة والثانية العفة وقوامها التغلب على الشهوة
والثالث القوة و قوامها التغلب على الغضب ، والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس
معنى التفكر
التفكر لغة: مأخوذ من مادة- ف ك ر -التي تدل كما يقول ابن فارس رحمه الله من علماء اللغة : على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبراً.
ولفظ التفكر مصدر، وفكر مصدرها التفكير ، والفكر هو التأمل وإعمال الخاطر في الشيء، فالتفكر هو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب..
أما التفكر الشرعي فقد قال ابن القيم رحمه الله قاعدة جليلة: أصل الخير والشر من قبل التفكر
فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض
وأنفع الفكر:
1- الفكر في مصالح المعاد ..
2-وطرق اجتلابها ..
3- وفي دفع مفاسد المعاد..
4- و في طرق اجتنابها..
فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة :
1- فكر في مصالح الدنيا..
2- وطرق تحصيلها..
3- وفكر في مفاسد الدنيا..
4- وطرق الاحتراز منها..
فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.
قال: ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما،
وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها يثمر له ذلك الرغبة في الآخر ة والزهد في الدنيا،
وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التفكر في كتابه مقروناً بذكر الأمثال والنعم و المخلوقات وكذلك ما نراه في هذا الكون من قدرته عز وجل
وهذه بعض الآيات التي فيها الأمر بالتفكر أو مدح المتفكرين أو أنه خلق أشياء للمتفكرين..
1-{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر
وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}
فهذا الرجل قلبه متعلق بالبستان من حيث:
أ-أنه جنة وليس مزرعة صغيرة.
ب- أن فيها أشجار متنوعة .. نخيل وأعناب.
ج-أن فيها أشجار نفيسة وأعلاها قيمة وقدراً.. النخيل والأعناب.
د-أن الماء الذي في هذه الجنة لا يستخرج من الآبار بالمجهود الكبير بل إن هناك أنهار تجري في هذه الجنة.
هـ-أصابه الكبر.. والإنسان إذا أصابه الكبر يحتاج إلى شيء يعود إليه بالمال دون أن يتعب فيه كثيراً.
و-له ذرية ضعفاء صغار مرضى فهو يخشى أن يموت والأولاد أين مصدر رزقهم.. لا يوجد إلا هذه الجنة.
فدرجة تعلقه بهذه الجنة كبير جداً، فكيف يكون شعوره وخيبة أمله والإحباط إذ أصابها إعصار فيه نار فاحترقت..؟..
كبير جداً..، فكر لماذا ضرب المثل ولأي شيء ساق هذا المثل..؟
إنه مثل ضربه الله للذي يعمل أعمالاً كثيرة.. صدقات وغيرها ولكنه يرائي..
يوم القيامة يأتي في غمرة الأهوال وهو محتاج إلى كل حسنة فيرى أعماله التي عملها في الدنيا
وأمامه النار من تلقاء وجهه والشمس دانية من رأسه وفي العرق والصراط مضروب على جهنم
ولا ينجو إلا بعمل صالح فجعل الله أعماله كلها هباءً منثوراً في وقت هو أحوج ما يكون إلى الحسنات فكيف يكون إحباطه وذله وخيبة أمله في ذلك الوقت..
ما الذي ينشئ الانقياد والسعي للإخلاص في العمل؟ التفكر في مثل هذه الآيات..
2- { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار}.
3- {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغنَ بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.
4- { الله الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها ثم استوى على العرش و سخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون،
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
5- {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون،
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون،
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ، وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها
وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}.
6- { وما أرسنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}
يتفكرون في القرآن والتبيان السنة ، فيتفكرون في القرآن والسنة.
7- { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها
وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }
إذاً التفكر في النفوس والتفكر في مصائر الأقوام البائدة مجال آخر للتفكر.
8- { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون،
لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ على لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}.
فليتفكر الإنسان في هذا القرآن وقوته لو أنزل على جبل لانهدّ فماذا ينبغي أن يكون أثره على نفسه؟
وفائدة التفكر
تكثير العلم واستجلاب المعرفة لأنه إذا اجتمع في القلب اجتمعت المعلومات الأساسية وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى،
فالمعرفة نتاج المعرفة ، فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل نتاج آخر!..
فالعلماء من أين أنتجوا انتاجهم وأحاكم الفقه والأحكام المستنبطة والتفسير..؟ جزء كبير خرج من التأمل في آيات الله والتأمل في الأحداث والوقائع..!
الأمور المشكلة والمستعصيات كيف حُلّت..؟!
أبو حنيفة قالوا له هذا شخص وهذا أخوه عقدنا لهما على أختين لما صارت الدخلة بالخطأ دخل الأخ الأول على زوجة الثاني
ودخل الأخ الثاني على زوجة الأول وطئها تلك الليلة و لم يكتشفوا ذلك إلا في الصباح ، الحل يحتاج لتفكر وتدبر ،
تعال يا فلان هل أعجبتك المرأة التي دخلت بها؟ رضيت بها؟ نعم، وأنت يافلان؟ نعم، يا فلان طلق فلانة التي عقدت عليها ويا فلان طلق فلانة ثم عقد لكل منهم على الأخرى!
الجمع بين النصوص كيف حُلّت..؟!
كيف نجمع بين { لا تزر وازرة وزر أخرى} و (الميت يعذب ببكاء أهله عليه)(بما نيح عليه)..؟!!
فيفكر العلماء .. يقولون هذا خاص بالكافر مثلاً ..هذا إذا كان راضياً بالنياحة و هو يعلم بما يفعلون بالعادة و لم ينههم قبل موته..وهكذا..
من وسائل زيادة الإيمان التفكر في آيات الله في الكون.. في الآفاق .. في النفس.. { أولم يتفكروا في أنفسهم } ..
فيما خلق الله..، فهذه الميادين في التفكر مهم جداً للإنسان المسلم والتفكر رأس المال وينتج بضاعة عظيمة جداً..
فالثمرة الخاصة للتفكر العلم.. وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب..
وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح ..، فالعلم تابع للفكر فالفكر هو المبدأ ينتج علماً والعلم ينتج حال في القلب من الخشية والإحساس بالتقصير في حق الله والرغبة والجد ..
ينتجها العلم فيؤدي إلى زيادة أعمال الجوارح لأن القلب يأمر الجوارح بالعمل..، فيصلح الإنسان ويعلو شأنه ويتحسن حاله من نتيجة التفكر..
محبة الله تحصل من التفكر في النعم..لأن النفس مجبولة على محبة من أحسن إليها..
وكذلك فإن التفكر وسيلة لفهم الشريعة و وسيلة للفقه في الدين
( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).. وهكذا تحصل البصيرة بالتفكر..
التفكر في النفس ماهو..؟
يشمل أن يتفكر في خلق الله كيف خلق نفس الإنسان وجسده،
والتفكر في النفس أيضاً يشمل التفكر في عيوبها وهذا مهم جداً جداً جداً ولا يمكن عمل تقويم وتصحيح وتعديل وتحسين إلا بعد التفكر ،
وإذا كان فكره صحيحاً عرف العيوب واكتشف الأخطاء وبالتالي يمتنع عن الوقوع فيما وقع فيه سابقاً من الأخطاء ويجتهد في تحصيل ما يستر به عيوب نفسه
ومن التفكر.. التفكر في خلق الله تعالى.. فإن فيه من العجائب والغرائب الدالة على حكمة الله وقدرته وجلاله شيء يهون الناظرين والمتفكرين
والموجودات منقسمة إلى أشياء معروفة و غير معروفة..
ومجال العلم التجريبي والدنيوي أن يكتشف الأشياء غير المعروفة وهي موجودة مما خلق الله عز وجل { ويخلق مالا تعلمون}
فمالا نستطيع أن نعرفه فلا يمكن إضاعة الوقت في استكشافه وهذا من الفروق في النظرة الإسلامية والغربية في قضايا المستكشفات والمخترعات
مجال التفكر في الموجودات التي نعلمها من جهة الاستكشاف العلمي الدنيوي المقدور عليه..
وغير المقدور عليه لا يمكن ندخل فيه، وهناك أشياء موجودة لا يمكن معرفة تفاصيلها إلا من الوحيين ( مثل معرفة الملائكة والجنة وما بعد الموت)
فالتفكر فيها يكون منطلقاً فقط من النصوص الشرعية..
أما قضايا الدنيا .. علم الأجنة .. والنجوم.. مثلاً وكالة ناسا أطلقت مناظير و مسبارات..أو في أعماق البحار و قيعان المحيطات.. تنظر فيها تتأمل في ملكوت الله و خلقه..
تبقى الأشياء القطعية حتى في الأمور الدنيوية وهي ما جاء الكتاب والسنة مثل من كل شيء زوجين اثنين.. وهكذا..
والتفكر في أمور الآخرة من الأمور المهمة جداً ..
وحيث أننا ما رأينا الآخرة ولا عشنا فيها ولا عندنا الآن من ثمار الجنة شيء ولا سلاسل النار شيء
لكن عندنا من النصوص الشرعية ما يصف لنا بدقة بالغة كيف سيكون الحال يوم القيامة وهذه الأوصاف والتفاصيل من رحمة الله حتى نجد شيء نتفكر فيه
فلذلك كلما ازداد علمك بتفاصيل مافي اليوم الآخر كلما ازدادت حركة القلب في التفكر في هذه التفاصيل
ولذلك لما سأل ابن المبارك ذاك لما رآه يتفكر قال له أين بلغت ؟ قال : الصراط.. التفكر كان يأخذ وقت طويل جداً عند العلماء والأولياء بل كانوا يقدمون التفكر على صلاة الليل..
لماذا ذكر الله أشراط الساعة ..؟
لتكون مجالاً للتفكر.. لا بد أن تشغلنا هذه القضايا دائماً و هذا من الخلل الموجود فينا أننا لا نتأمل..
المشكلة أن مجالات التفكر اليوم يا في الحرام والعشق والحب والغرام أو في الدنيا فقط..
طغت الحياة الدنيا على الناس.. فصار التفكير نادر في القضايا المهمة التي عليها مدار السعادة..
وأحد السلف كان على تنور فرن خباز فوقف ينظر في النار التي في التنور..ثم جعلت دموعه تنهمر فبكى بكاء حاراً..فقيل له مالك؟ قال: "ذكرت النار"..
قال ابن عباس:" ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب"..
وبكى عمر يوماً فسئل عن ذلك فقال:" فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ،
ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر ، إن فيها مواعظ لمن ادّّكر"..
فمن رحمة الله أنه جعل لذات الدنيا مهما عظُمت فيها تنغيص وتكدير حتى لا يستسلم العباد إليها ومع ذلك يستسلمون إليها!
وسأل عبدالله بن عتبة أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: "التفكر والاعتبار"..
نور الإيمان التفكر.. أفضل العمل الورع والتفكر.. تفكر ساعة خير من قيام ليلة..
عودوا قلوبكم البكاء وقلوبكم التفكر..
إني رأيت عواقب الدنيا
فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا وعالمها
فإذا جميع أمورها تفنى
وبلوت أكثر أهلها فإذا
كل امرئ في شأنه يسعى
أسمى منازلها وأرفعها
في العز أقربها من المهوى
تعفو مساويها محاسنها
لا فرق بين النعي والبشرى
وقد مررت على القبور
فما ميزت بين العبد والمولى
أتراك تدري كم رأيت
من الأحياء ثم رأيتهم موتى؟
فالإنسان عليه أن يديم التفكر ويطيله لأنه يوصل إلى مرضاة الله وانشراح الصدر وسكينة القلب
ويورث الخوف و الخشية من الله ويورث العلم والحكمة والبصيرة ويحيي القلوب
و يصير هناك اعتبار واتعاظ من سير السابقين..
هذا التفكر.. العمل القلبي العظيم..نسأل الله أن يجعلنا من الذين يتفكرون ومن الذين يعقلون ومن الذين يتدبرون..
أعمال القلوب اهتم بها العلماء فصنفوا فيها المؤلفات ، وابتدؤوا أعمالهم بالتذكير والحث عليها. أعمال القلوب تحتاج إلى مجاهدة وعناية،
وبما أن النجاة مدارها على أعمال القلوب بالإضافة إلى أعمال الجوارح التي لابد أن تأتي إذا صحّت أعمال القلوب.
التقوى شيء عظيم ومنزلة سامية وهي أساس الدين ولا حياة إلا بها بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق
بل هي أدنى من حياة البهائم فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى ..
هي كنزٌ عزيز لئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف وخيرٍ كثير ورزق كريم وفوز كبير وغنمٍ جسيم وملكٍ عظيم،
فكأن خيرات الدنيا والآخرة جُمِعَت فجُعِلَت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى..!
كم في القرآن من ذكرها، وكم عُلِّق بها من خير، وكم وُعِد عليها من خير وثواب، وكم أضيف إليها من سعادة..!
هذه التقوى ظلالٌ طاب العيش فيها..هذه التقوى حياة كريمة .. فما هي وما تعريفها وكيف تحصل التقوى وماهي ثمراتها وما درجاتها وماهي الأسباب المعينة عليها..؟
معنى التقوى
التقوى هي الاسم من التقى والمصدر الاتقاء وهي مأخوذة من مادة وقى فهي من الوقاية،
وهي ما يحمي به الإنسان نفسه ، وتدل على دفع شيء عن شيء لغيره، فالوقاية ما يقي الشيء ، ووقاه الله السوء وقاية أي حفظه.
وأما المعنى الشرعي فقد ذكر العلماء في تعريفها عدة عبارات فمن ذلك قولهم..
-أن تجعل بينك وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً..
-امتثال أوامر الله واجتناب النواهي فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم،
ولا يقدمون على ما نهاهم عنه..
-التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل..
-التقوى أن يجعل المسلم بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه..
-"وقد سأل عمر رضي الله عنه أُبَي بن كعب فقال له: ما التقوى؟ فقال أُبَي : يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً فيه شوك؟
قال: نعم.. قال: مافعلت؟ ..قال عمر: أشمّر عن ساقي وأنظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة..فقال أُبَي بن كعب: تلك التقوى..! "
فهي تشمير للطاعة ونظر في الحلال والحرام وورع من الزلل ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه وتعالى..
-التقوى هي أساس الدين، وبها يرتقى إلى مراتب اليقين، هي زاد القلوب والأرواح فبها تقتات وبه تتقوى وعليها تستند في الوصول والنجاة..
-قال ابن المعتز:
خلّ الذنـــــــــــوب صغيرها وكبيرها فهو التقـــــــــى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر مايـــــــــــــرى
لا تحقرنّ صغيرة إن الجـــــــــــــــــــــــبال من الحصـى
-قال ابن رجب – رحمه الله – : أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه.
– وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عزوجل كقوله { واتقوا الله}،
فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمقصود اتقوا سخطه وغضبه،ليس المقصود اتقوا القرب منه ولا اتقوا شرعه لكن اتقوا عذابه وسخطه
وقال سبحانه: {هو أهل التقوى}،هو أهلٌ أن يتقى وأن يخشى وأن يهاب وأن يجلّ وأن يعظّم سبحانه وتعالى .
-وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله أو إلى مكان العقاب كالنار { واتقوا النار} ،
أو إلى زمان العقاب كيوم القيامة {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} ..
-ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات،وربما دخل فيها أيضاً فعل المندوبات وترك المكروهات والمشتبهات
فقول الله تعالى : { آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} يشمل ذلك كله..
-قال ابن القيم – رحمه الله – في التقوى في تعريفها الشرعي: حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً،
فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده..
-قال طلق بن حبيب:إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى، قالوا: و ما التقوى؟قال: أن تعمل بطاعة الله،
على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله.."وهذا من أحسن ما قيل في حدّ التقوى
-والتقوى أيضاً امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكون على ثلاث مراتب:
1-التوقّي من العذاب المخلّد صاحبه و هو المشرك الكافر، وذلك باتباع التوحيد وكلمة التوحيد وهي المقصودة
بقوله تعالى: { وألزمهم كلمة التقوى} .
2-أن تتقي كل ما يكون سبب للعذاب في النار ولو لبرهة يسيرة من كبائر وصغائر، وهو المتعارف عليه في الشرع.
3-أن يتنزه العبد عن ما يشغل نفسه عن الله تعالى ولو كان مباحات تشغله عن السير لله أو تُبَطّيء سيره،
فهذه مرتبة الكُمّل وهذه المرتبة العالية فإن الانشغال بالمباحات يشغل القلب عن الله عزوجل
وربما يؤدي إلى القسوة وبالتالي يؤدي إلى الوقوع في المكروهات والمكروهات تؤدي للوقوع في المحرمات،
وهذا مسلسل يعرفه الإنسان من نفسه في عدد من الأحيان.
و التقوى تُطلَق في القرآن الكريم على عدد من الأمور :
1-تأتي بمعنى الخشية والهيبة كما قال تعالى :{وإيايَ فاتقون}
2-تأتي بمعنى الطاعة والعبادة كقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}
3-تطلق على التنزه عن الذنوب وهذه هي الحقيقة في تعريف التقوى في الاصطلاح،
قال عز وجل : {ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} .
4-وكذلك يقال في مراتب التقوى أو حالات التقوى:
1- اتقاء الشرك.
2- اتقاء البدعة.
3- اتقاء المعصية.
والله عزوجل ذكر التقوى ثلاث مرات في آية واحدة ،
فقال سبحانه وتعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا}
فهذا التكرار ليس تكراراً مجرداً ، فقال بعضهم: التقوى الأولى تقوى عن الشرك، والثانية تقوى عن البدعة، والثالثة عن المعاصي، ويقابل الأولى التوحيد، والثانية السنة، والثالثة الطاعة
وكذلك التقوى يدخل فيها كما تقدم الحذر من المكروهات والمشتبهات ،
فلا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس
ومن الناس من يتقي نفسه الخلود في النار،هذه همته، ولا يتقي المعاصي التي تدخله جهنم ولو حيناً من الدهر فيقر بالتوحيد ويصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول أنا مسلم ،
و يأتي بأركان الإسلام والإيمان لكن لا يحرص على أن يقي نفسه دخول النار بالكلية فيفرط في واجبات ويفعل محرمات..
فينبغي أن يعلم أي درجة من التقوى هو عليها ، وهذا لا يستحق صاحبه اسم المتقي بإطلاق.لماذا..؟
لأنه متعرض للعذاب مستحق للعقاب بما يفعله إلا أن يتداركه الله برحمته ويدخل في المشيئة
لأن أهل التوحيد ممكن أن يدخلوا في المشيئة، أي يعفو الله عنهم وإن شاء عذبهم بحسب أعمالهم حتى يخرجوا من النار يوماً من الأيام
ومن الناس من يتقي الكفر وكبائر الذنوب ويعمل طاعات و يفعل واجبات،
لكن لا يمتنع من الصغائر ولا يكثر من النوافل، فهذا أقرب للنجاة لكن لا تستطيع أن تطلق عليه أيضاً أنه شخص تقي أو متقي
وقد قال تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات))،
لكن قد لا تكفي، قد تكون الصغائر كثيرة جداً بحيث أن هذه لا تكفي للتكفير
ولم يأخذ هذا الشخص جُنّته من النار ووقايته منها بالكامل فهناك تقصير ووقوع في الصغائر، وقد يؤدي إلى الاجتراء على الكبائر فيما يُستَقبل.
ولذلك الله عز وجل قال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}
يعني كلها ، ليس أن تتقي الخلود فقط في جهنم، أو تتقي الكبائر فقط ، بل لابد من اتقاء الصغائر أيضاً
اتقاء كل مايؤدي للدخول في النار، أن تجعل بينك وبين النار جنّة حصينة بهذه الطاعات.
قال الحسن رحمه الله : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
فالمتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسمّاهم الله متقين
والمتقي أشد محاسبة لنفسه من محاسبة الشريك لشريكه، ولذلك يخلي جميع الذنوب ويتركها
كما قال ابن المعتمر:
خلّ الذنـــــــــــوب صغيرها وكبيرها فهو التقـــــــــى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر مايـــــــــــــرى
لا تحقرنّ صغيرة إن الجـــــــــــــــــــــــبال من الحصـى
لكن هنا مسألة مهمة وهي فائدة العلم في قضية التقوى، لابد أن تعرف أولاً ماهو الذي تتقيه:
1-أن تبين لك ما يجب عليك أن تتقي، تعلم أحكام الدين، تعلم الحلال والحرام..
2-وكذلك قد الإنسان من جهله يمتنع من حلال خالص ظناً منه أنه حرام
من الجهل ولا يكون في هذا ورع ولا تقوى ولكن حرمان نفس بدون فائدة..
قال بعضهم:"إذا كنت لا تحسن تتقي ؛ أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي؛
لقيتك امرأة ولم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي ؛ وضعت سيفك على عاتقك"
أي تدخل في الفتن بالجهل، ودخل مسلمين كُثر عبر التاريخ الإسلامي في معارك بين المسلمين
لو كان عندهم علم وفقه ما دخلوا فيها، مع أن بعضهم قد يتورع عن أشياء دقيقة جداً ، لكن في الدماء لم يتورع للجهل.
مسألة الاستصغار التي تقع من كثر من الناس للذنوب ويراها سهلة وليست بشيء، كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، (( إياكم ومحقرات الذنوب))،
تحقرنّ من الذنوب صغــيرة
إن الصغير غداً يعودُ كبيرا
إن الصغير ولو تقادم عهـــده
عـــــن الإله مسطّراً تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن
صعب القيادِ وشمّرَنّ تشميرا
إن المحب إذا أحبّ إلـــــــــهه
طـــار الفؤاد وأُلهِم التفكيرَ
فاسأل هدايتك الإله فتتئــــــــد
فــــكفى بربك هادياً ونصيرا
والإمام أحمد رحمه الله يقول: "التقوى هي ترك ما تهوى لما تخشى "
فتترك هواك لأن لك خشية من العذاب ويوم طويل
و قيل أيضاً في التقوى : " أن لا يراك حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك" .
وأما بالنسبة لمنزلة التقوى وشرف هذه المنزلة فإنه شيء عظيم ويكفي أن التقوى وصية الله للأولين والآخرين
قال تعالى: { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله }
قال القرطبي رحمه الله : الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم
وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله، لأن جميعه يدور عليها،
فما من خير عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
أن المرء محتاج للتقوى ولو كان أعلم العلماء، وأتقى الأتقياء، يحتاج إلى التقوى لأن الإنسان تمر به حالات، ويضعف في حالات،
يحتاج إلى التقوى للثبات عليها ، يحتاج إلى التقوى للازدياد منها
وهذا مانفهمه من وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ ((يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن )).
وهو من كبار الصحابة وسادات القوم وأعلم الأمة بالحلال والحرام
اتق الله حيثما كنت، في السر والعلانية، أتبع السيئة الحسنة تمحها، لماذا بدأ بالسيئة؟
لأنها هي المقصودة الآن، عند التكفير الاهتمام يكون بالسيئة، لا لفضلها ، ولكن لأنها المشكلة التي ينبغي حلّها
والكيّس لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو به السيئات، و ليس المقصود الآن هو فعل الحسنات ، وإنما كيف تكفر السيئة، لذلك بدأ فيها، وإلا فقد دلّ على حسنات كثيرة في أحاديث أخرى ولم يذكر السيئة فيها
لأن المقصود تعليم الناس الحسنات، لكن هنا المقصود تعليم الناس كيفية تكفير السيئة.
(( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، إذاً تحرص على التقوى وإذا حصل وأذنبت تعرف الطريق، اعمل الحسنات لتمحو ما ارتكبت من السيئات
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها وكان أبو بكر يقول في خطبته : ((أوصيكم بتقوى الله))،
ولم حضرت الوفاة دعا بالوصية لعمر وقال : ((اتقِ الله يا عمر ))، وعمر كتب بها لابنه فقال: ((أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عزوجل))
واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلاً على سرية فقال: (( أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من لقائه ))
وقال عمر بن عبدالعزيز في خطبته:: (( أوصيكم بتقوى الله عزوجل فإن تقوى الله عزوجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف))
التقوى يمكن أن تعوّض أي شيء ، لكن إذا فقدت لا يعوضها شيء.
منزلة التقوى:
1- التقوى خير لباس..، فالتقوى أجمل لباس يتزين به العبد { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوراي سوءاتكم وريشاً}
منّ الله بهذا عليهم ، والمنّة تقتضي الإباحة، إذا جاء الأمر في سياق الامتنان يفيد الإباحة
ولكن ذكرهم في ذات الوقت بما هو أهم ، فقال في لباس معنوي غير اللباس الحسّي أنفس منه وأعلى { ولباس التقوى ذلك خير }
واللباس يستر العورات فهو اللباس الأصلي، والريش هو ما يُتجمَّل به ، فلما أخبرهم بما يسترون به ظاهرهم ؛ نبّههم إلى ما يسترون به باطنهم،
لما أرشدهم إلى ما يزينون به ظاهرهم؛ نبههم إلى ما يزينون به بواطنهم فقال: {ولباس التقوى ذلك خير}.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى
تقلب عرياناً وإن كان كاسياً
وخير لباس المرء طاعة ربه
ولا خير فيمن كان لله عاصياً
2- قوى خير زاد { وتزودوا فإن خير الزاد التقو ى واتقونِ يا أولي الألباب}
3-ثم إن أهل التقوى هم أولياء الله في الحقيقة { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}
4-وجعل الله عز وجل التقوى هي الميزان عنده في التفاضل بين الناس فقال عز وجل : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم}
ومن شرف التقوى أن الله أمر بالتعاون من أجلها { وتعاونوا على البر والتقوى}، ومصالح العباد لا تتم إلا بها
علامات التقوى
1-إذا تخلّص من آفات الغفلة والاستخفاف بالمنكر من الأقوال والأفعال، والضيق بالمنكر إذا حصل،
والتأذي منه إذا وقع، والفزع إلى الله طالباً الخلاص، هذا من صفات المتقين
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}
2-التقي دائماً يذكر ربه، لأن ذكر الله مطردة للشيطان والوسوسة،
مطهرة لكل ما يدخل في الإنسان من رجس أو دنس من كلاب الشهوات أو الشبهات التي تغير على قلبه
والله عز وجل قال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون
الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم }.
كيف تكون تقيّاً؟
1-أن تحب الله أكثر من أي شيء.
2-أن تستشعر مراقبة الله دائماً.
3-أن تعلم عاقبة المعاصي.
4-أن تتعلم كيف تقاوم هواك وتتغلب عليه.
5-أن تدرك مكائد الشيطان و وساوسه.
وهذه الأشياء سهلة بالقول وصعبة في التطبيق..، فبعض الناس يغفل وينسى مراقبة الله له،وينسى حديث (( اعبد الله كأنك تراه))..
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل*** خلوتُ ولكن قل عليّ رقيــــــــــبُ
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعــــــــــــة***ولا أنّ ما يخفى عليه يغيـــــــــــــبُ
وأما مسألة معرفة مافي الحرام من المفاسد والآلام فإن الإنسان يكفي أن يتأمل فيما حصل للكبار، و ما حصل للأقوام السابقة،
ما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ من دار النعيم واللذة والسرور إلى دار الآلام والأحزان..؟؛ المعصية..!..
فالحرام يترتب عليه مفاسد ومصائب..
فلتأمل مافي الذنوب من الآلام والمصائب ؛ يقود إلى التقوى ولو كان فيها لذّة..
تفنى اللذاذة ممن نال لذتهـــــــا*** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبّتهــا***لاخير في لذة من بعدها النـــار
وكذلك فالإنسان لابد أن يتعلم كيف يغالب هواه وابتداءً من معالجة الخواطر، أول ما تأتي الخاطرة بالمعصية أو بالشر يطردها،
وهذا هو العلاج الناجع؛ أن الإنسان يدافع الهوى والخاطرة ويتغلّب عليها، ولا بأس أن يفطم نفسه عن المعاصي ولو كان ذلك شيئاً مكروهاً بالنسبة له،
فالصبر على الحرام ليس سهلاً بل فيه ألم لكن يعقبه لذّة وراحة يوم الدنيا..
أنت في دار شتات فتأهّب لشتاتــــــــــك
واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك
واجعل الفطر عند الله في يوم وفاتـك
* * *
لا خير فيمن لا يراقب ربه عند الهوى ويخافه إيــــــــــــــــــــــــماناً
حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى يخشى إذا وافى المعاد هوانا * * *
ما إن دعاني الهوى لفاحشةٍ
إلا نهاني الحياء والكرمُ
فلا على فاحش مددت يدي
ولا مشت بي لريبة قدمٌ
صفات المتقين
1-ذكر الله من صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب إيماناً جازماً { هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}.
2-يعفون ويصفحون { وأن تعفوا أقرب للتقوى}.
3-لا يقترفون الكبائر ولا يصرون على الصغائر، وإذا وقعوا في ذنب سارعوا إلى التوبة منه
{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}
سارعوا مباشرة إلى التوبة والإنابة إذا أصابتهم صغيرة.
4-يتحرون الصّدق في الأقوال والأعمال { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}
5-يعظمون شعائر الله { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}
وما معنى تعظيم شعائر الله؟؛ أن المرء يعظم حرمات ربه فلا ينتهكها،ويعظّم أوامر الله فيأتي بها على وجهها،
ويأتي بأنفس الأشياء، فلو طُلِب منه هدي في الحج أو أضحية استسمنه واستحسنه وأتى به على أحسن وأنفس وأغلى ما يجد ، هذا من تعظيم شعائر الله
6- يتحرون العدل ويحكمون به { ولا يجرمنّكم شنآن قوم ٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} .
الآية أساساً في المشركين والمشركون يبُكرَهون ويبغضُون لأجل شرك والكفر ومع ذلك أمرنا أن نعدل فيهم.
7-المتقين يتبعون سبيل الأنبياء والصادقين والمصلحين يكونون معهم، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}
فأهل الصدق هم أصحاب المتقين وإخوانهم ورفقاءهم وأهل جلوسهم وروّاد منتدياتهم.
8-يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس لأجل حديث (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ))
تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك أحياناً ما ترى بعض الحلال خشية أن تكون حراماً
ثمرات وفوائد التقوى
1-أنها المخرج من كل ضيق ومصدر للرزق من حيث لا يحتسب المتقي، لأن الله وعد و وعد الله لا يتخلف
فقال تعالى : { ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
وهذه مهمة جداً في شحّ الوظائف
2-تسهيل الأمور، وأن ييسر الله له الأسباب {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.
3-ومن أهم ما يُكافأ به المتقي أنه يُعطى العلم النافع من جرّاء التقوى { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم}
4-البصيرة من أعظم ما يرزق به المتقي، فتكون له بصيرة و فرقان يفرّق به بين الحق والباطل
وأن يكون له نور من ربّه يضيء دربه فيحذر الشر ويرجو الخير ويوفَّق{ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}
الفرقان في اللغة الذي يفرّق بين الليل والنهار، كالصبح يفرق بين الحق والباطل.
5-محبة الله والملائكة للعبد، ومحبة الناس لهذا العبد، { بلى من اوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين}
وإذا أحبه نادى جبريل أن يحبه، ويحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض
6-نصرة الله للمتقي وتأييده له وتسديده { واتقوا الله إن الله مع المتقين}، والمعيّة هذه معية نصرة وتأييد وتسديد
7-يرزق بركات من السموات والأرض، والبركة تكثير القليل ، الكثرة، الزيادة، الخير ، العافية{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}
8-البشرى ..سواء كانت ثناء من الخلق، أو رؤيا صالحة، من الملائكة عند الموت{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
الذين آمنوا وكانوا يتقون أولئك لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
9-الحفظ من كيد الأعداء ، فإن الإنسان لا يخلو من عدو حاسد { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} فيدفع الله عنه شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال التقوى.
10- { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً}
فأرشد الله الآباء الذين يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شؤونهم لكي يحفظ أبناءهم، ويغاثون بالرعاية الإلهية بل يحفظ فروع الفروع.
11- التقوى سبب قبول العمل وهذا من أعظم الأشياء { إنما يتقبل الله من المتقين}
12-التقوى سبب للنجاة من عذاب الدنيا { ونجّينا الذين آمنوا وكانوا يتّقون}.
13- التقوى يُجعل للإنسان بها حلاوة وشرف وهيبة بين الخلق لأن الإنسان يحب أن تكون له مكانة بين الناس
ألا إنما التقوى هي العز والكــــــــــــــرم
وحبك للدنيا هو الذل والسقــــــــــــــم
وليس على عبدٍ تقي نقيصــــــــــــــــــــــة
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجــــم
14-التقوى توصل إلى مرضاة الرب عز وجل وتكفير السيئات والنجاة من النار والفوز بالجنة وهذا هو قمة المطلوب وأعلى مراد المسلم أن الله عزوجل يدخله الجنة{ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم }
}،
وهؤلاء المتقين لا يذهبون إلى الجنة مشياً وإنما يذهبون ركباناً موقرين مكرمين
لأن الله قال: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} وقال: { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً}
والوفد يكرم يذهب بهم إلى ملك الملوك سبحانه وتعالى ، فيدخلهم جنته{ إن للمتقين مفازا}، يدخلهم الأنهار{ إن المتقين في جنات ونهر}.
والنجاة من النار{ ثم ننجي الذين اتقوا}
والعز والفوقية فوق الخلق يوم القيامة غير عز الدنيا { زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}
فيورثون الجنة بالتقوى
كما قال الله عز وجل : { وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً}
والدار الآخرة للمتقين يوم القيامة، ويجمع الإنسان بأحبابه إذا اتقى ربه { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}
نسأل الله أن يجعلنا من أهل التقوى,والنهاية لا بد أن تأتي بمفارقة هذه الحياة..
عش ما بدى لك سالماً في ظل شاهقة القصـــور
يُسعى عليك بما اشتهيت لدى الرواح وفي البكــور
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ماكنت إلا في غــــــــــــــــرور
فالاشتغال في تحصيل التقوى وفعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله هو المكسب في هذه الحياة في الحقيقة وإلا فإن كل ما فيها لهو ولعب
والدنيا ملعونة فنسأل الله أن يكفينا شرها، وأن يجعلنا من المشتغلين بتقواه وأن يؤتي نفوسنا تقواها إنه خير من زكّاها.
الدرس الرابع : التوكـــــــل
التوكل مقام جليل عظيم الأثر، بل ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلىمقامات توحيد الله سبحانه وتعالى
فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله والإستعانة به، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة لأنه يتوكل في حصول مراده فهي وسيلة والإنابة غاية
وهو من أجل المراتب وأفضلها وأعمها قدراً..
قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة.
التوكل يتعلق بكل شيء واجبات ومستحبات ومباحات ولقد كثرت حوائج الناس ولابد لهم من التوكل على الله في قضائها.
قال ابن القيم رحمه الله: ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزاله.
فالمسلم لا يرى التوكل على الله في جميع أعماله واجباً فقط بل يراه فريضة دينية ليس متعلقاً فقط بالأمور الدينية بل بالأمور الدنيوية
وليس بالأمور الدنيوية وطلب الرزق فقط بل بعبادة الله سبحانه وتعالى فهو عقيدة (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))
ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين ، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإن التوكل من على الله واجب من اعظم الواجبات كما أن الإخلاص لله واجب وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله: والتوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضا لا يتصور وجودٌ بدونها.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (( الأصل الجامع الذي تتفرع عنه الأفعال والعبادات هو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه
والاعتماد بالقلب عليه وهو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضا به رباً وإلهاً
والرضا بقضائه بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء وعدّه من النعماء{ كما في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب} فسبحان من يتفضل على من يشاء بما شاء والله ذو الفضل العظيم..
فالتوكل هو أحد مباني التوحيد الإلهية كما يدل على ذلك قوله تعالى: (( إياك نعبد وإياك نستعين)).
وأيضاً يدل عليه قوله تعالى: (( وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون))
وهذا التوكل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما في صفة السبعين ألفاً ، فالذي يحقق التوكل ليس كل الناس بل هم طائفة قليلة من الناس
ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( هذه أمتك يدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً بغير حساب ثم دخل ولم يبين من هم وما هي صفاتهم
فأفاض القوم وقالوا نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول منهم فخرج وقال : هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون))
فقال عكاشة بن محصن أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال نعم، فقال آخر أمنهم أنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( سبقك بها عُكاشة أو عُكَّاشة)).
التوكل على الله صفة علية من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان
كما قال تعالى: (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون)).
لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه
ويعلمون أنه ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف بالملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب كما قال ابن كثير رحمه الله،
وقال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان.
فالتوكل هو عدة المؤمنين يوم يتوعدهم الناس ويخوفونهم بكثرة الأعداء.
فكان أول شيء وآخر شيء قاله إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل.
هو القريب المجيب المستغاث به ××××× قل حسبي الله معبودي ومُتّكلي
من الآيات الدالة على فضل التوكل قوله تعالى: (( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله
قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات الضر أو أرادني برحمته هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون))
ذكر التوكل في القــــــران
وقد أمر الله بالتوكل وحث على ذلك في مواضع كثيرة كما في قوله تعالى (( وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) في سبعة مواضع في القرآن الكريم:
1- (( فتوكل على الله إنك على الحق المبين)).
2- ((فاعبده وتوكل عليه)).
3- (( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً)).
4- (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك
فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين))
فالتوكل سبب لنيل محبة الله وهي الصفة التي تميز بها المؤمنون عن غيره ولذلك أوجب الله التوكل.
5- وإذا قيل ما حكم التوكل؟ فيقال واجب مثل أصل محبة الله والصبر والإنابة بل إن التوكل شرط الإيمان. والمفهوم من الآية (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))
أنه إذا انتفى التوكل انتفى الإيمان.
6-أمر الله بالتوكل وقرنه بالإيمان ليدل بذلك على أنهما جزءان إذ التوكل على الوكيل هو الإيمان فأمر بالتوكل قولاً وعملاً بعد الإخبار عن محبته للمتوكل عليه (( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين)).
واشترط للإيمان التوكل (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))
7-وصار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، ونعتهم الله بالمقام الجليل العظيم.
وضمن الله لمن توكل عليه القيام بأمره وكفايته أي أن يكفيه همه وأن ينصره ويحفظه فالله ناصر دينه وكتابه والله كافٍ عبده بأمان
قال تعالى: (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً))
قال صلى الله عليه وسلم : (( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً))
1-وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين:
أ-السعي في طلب الرزق.
ب-الاعتماد على مسبب الأسباب.
وهذا الحديث مهم في فهم قضية التوكل وفي الأخذ بالأسباب
لأن الطير تغدو أي تذهب في الصباح وتبحث عن الرزق وتخرج من أعشاشها وهذا عمل وسعي وجهد وهو الطيران وترجع محملة بالطعام لنفسها ولأفراخها،
إذاً فالسعي في طلب الرزق هو الاعتماد القوي على مسبب الأسباب المباحة
فضل التوكـــــــــــل
ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبدات والمقامات:
1-مقام العبادة(( فاعبده وتوكل عليه)) فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والخلق بالعبادة والتوكل
2-في مقام الدعوة، فجاء الخطاب لرسول الله والأصل هو خطاب لأمته إلا إذا دل الدليل على تخصيص له فقال تعالى: (( فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)).
الداعية إلى الله إذا جُوبه بالإعراض من المدعوين والصدود والرد وعدم الاستجابة فإنه يتوكل على الله والله يكفيه شر هؤلاء المعرضين. ويوسع صدره الذي ضيقوه بإعراضهم.
3-في مقام الحكم والقضاء ، قال تعالى: (( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب))
4-في مقام الجهاد وقتال الأعداء، قال تعالى: (( وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم*
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون))
5-في مقام المشورة، قال تعالى: (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك
فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين))
6-في مقام طلب الرزق، قال تعالى: (( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا
وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون))
7-في مقام العهود والمواثيق، وقد أخبر الله عن يعقوب عليه السلام في قصة يوسف وأخوته: (( قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقاً قال الله على ما نقول وكيل))
8-في مقام الهجرة في سبيل الله وهو عظيم وأليم على النفس أن يترك الإنسان مأواه وداره وأمواله ويتغرب ويضحي بعشيرته وبذكريات حبيبته
ولكن يهوّن عليه التوكل على الله ، قال تعالى: (( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعملون *
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون))
9-في مقام إبرام عقود البيع والإجارة والزواج، موسى عليه السلام لما اتفق مع الرجل الصالح على أن يزوجه ابنته على أن يأجره ثماني حجج أجير وراعي غنم وإذا أتم عشراً فهذا حسن وليس بواجب
(( فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين* قال هذا بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل))
تعريف التوكـــــــــــــل
في اللغة: هو الاعتماد والتفويض وتوكيل الأمر إلى الشخص أي تفويضه به والاعتماد عليه فيه
ووكل فلان فلاناً إذا استكفاه واعتمد عليه وفوض الأمر إليه ووثق به ،
والتوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير، وأصله من الوكول ويقال وكلت أمري إلى فلان أي اعتمدت عليه .
وقد ورد لفظ التوكل بالإفراد والجمع والماضي والمضارع والأمر في القرآن في اثنان وأربعون موضعاً، كلها جاءت بمعنى الاتكال والاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه فالاسم التكلان،
وورد في حديث الترمذي وفيه ضعف(( وهذا الجهد وعليك التكلان)).
وأيضاً من الأسماء الوكالة ووكيل الرجل الذي يقوم بأمر فهو موكول إليه الأمر.
هل يصح أن تقول أن الله وكل أو يوكل أحداً من العباد؟
نعم بإقامة الدين، لكن هل يصح أن يقال أن أحداً ما وكيل الله؟ لا..
لأن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة، والله لا نائب له ولا يخالفه أحد ولا يخلفه أحد بل هو يخلف عبده( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل )
أما أن العبد يوكل ربه فنعم بتفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف ، لهذا قيل في التوكل أنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية
ومعنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأمره ومصالحه فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان لا عن حاجة بل منّة وافتقار منهم إليه
وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته، وقيام بعبوديته وحسبنا الله ونعم الوكيل أي كافينا ونعم الكافي يكفينا من كل شر والحسب هو الكافي والله وحده كافٍ عبده.
والتوكل في الاصطلاح الشرعي: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كما ذكر ابن رجب، وقال الحسن أن يعلم أن الله هو ثقته..!
وهذا التوكل لا ينقطع ولا يخلو من اتخاذ الأسباب، فهو ثقة بالله واعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، فهو يلتئم هذين الأصلين،
يقول ابن القيم رحمه الله: سر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده ، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها.
إذا كان معتمد على الله بالكلية فلا يضره لو كان لديه عشرين طريقة وسبب، لأن يفعل شيئاً فإذا قال العبد توكلت على الله مع اعتماد القلب على غير الله كمن يقول تبت وهو مستمر على المعصية،
فتوكل اللسان مختلف عن توكل القلب، وهذا فعل الكفرة والغربيين إذا انهارت الأسباب انهاروا أما المؤمن فلا ينهار إذا أفلس من الأسباب فلا يزال يرجو الفلاح.
حقيقة التوكــــــــــل
قال الزبيدي في تاج العروس: الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس،
فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، مع كامل اليقين أن تعلم أن الله هو الرازق الخالق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.
والتوكل يتناول التوكل على الله ليعينه الله على فعل ما أمره والتوكل على الله ليعطيه ما لا يقدر عليه
(( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى ربنا راغبون)).
إذا ما حذرت الأمر فاجعل ازاءه رجوعاً إلى رب يقيك المحاذر
ولا تخش أمراً أنت فيه مفوض إلى الله غايات ومصادر
وكن للذي يقضي به الله وحده وإن لم توافقه الأماني شاكر
ولا تفخرن إلا بثوب صيانة إذا كنت يوماً بالفضيلة فاخر
وإني كفيلٌ بالنجاة من الأذى لمن لم يبت يدعو سوى الله ناصر
حقيقة التوكل عبادة واستعانة ( فاعبده وتوكل عليه)(عليه توكلت وإليه أنيب)
انظر للمقارنة للتوكل مع العبادة والاستعانة بالله، فالتوكل أعمّ في جلب المنافع وهو دفع المضار حتى لو كانت في أشياء دنيوية والاستعانة على العبادة.
التوكل أعم من الاستعانة و قد جمع الله بين الأصلين في غير موضع كقوله (إياك نعبد وإياك نستعين)
فالعبادة له والاستعانة به والتوكل عليه وحده لا شريك له، الله عزوجل إذا توكل عليه العبد يكفيه و هو حسب من توكل عليه والحسب هو الكافي ، يمنع الشر عنك، يكفيك ما أهمك ، يكفيك عدوك..
وإذا كان الله قد جعل لكل عمل جزاء من جنسه فقد جعل جزاء التوكل عليه الكفاية، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ولو كاده كل من في الأرض جميعاً..!!
والثقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وتفويض الأمور يليه يريح العبد نفسياً،
لأنه الواحد مهما بذل أسباب ستبقى ثغرات يتحسب منها ، ويبذل كذا وكذا لكن هذه لا يستطيع أن يفعل فيها شيء
فيصبح العبد مهموماً حتى مع اتخاذ بعض الأسباب..
هناك أشياء لا يقدر عليها فالتوكل يريحه نفسياً..الأشياء التي لا حيلة له فيها ؛ الذي لا يتوكل قلق منها قلق جداً منها لأنه لم يعمل شيء في الموضوع ، لكن من يتوكل على الله كفاه الله ما أهمه
مراتب التوكـــــــــل
والتوكل على الله لابد من تحقيق مراتب فيه:
1-معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته
أنت تتوكل على الله وتعتمد عليه يجب أن تكون مؤمنا بقوة الله وقدرته وأنه يكفيك، فالذين يعطلون أسماء الله وصفاته ويلحدون فيها سيخلون بهذه المرتبة..
2-إثبات الأسباب والمسببات وأنها لا تستقل بنفسها في التأثير، وإن جحد الأسباب وقال كل سبب معطل ، هذا غبي مجنون..
هناك أسباب ، تنكح ليأتيك الولد وتبذر ليخرج الزرع..
ولذلك جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أءعقلها وأتوكل أم أطلقها وأتوكل…؟، قال : اعقلها وتوكل
قال تعالى : (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) ,
فالذي يقول لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي جاهل بشرع الله وجاهل بقدر الله
3- ومن المقامات التي يجب تحقيقها رسوخ القدم في طريق التوحيد..فالعبد إذا حقق التوحيد كان له من التوكل النصيب العظيم .. ( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت) توحيد وتوكل بعده
4-الاعتماد على الله عزوجل في كل الأمور، بحيث يفوض إليه سائر أموره..
5-أن يحسن الظن بالله عزوجل وتفويض الأمور إلى الله عزوجل كلها ويكون بيد الله أوثق منه بما في يده،
لا يضطرب قلبه ولايبالي بإقبال الدنيا وإدبارها لأن اعتماده على الله
6-استسلام القلب لله سبحانه وتعالى، فإذا استسلم كاستسلام العبد الذليل لسيده وانقياده له حصل التوكل ..
7-التفويض .. (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله) أي أتوكل عليه وأستعينه مع مقاطعتي و مباعدتي لكم خدعتموني
فعرفنا إذاً أيها الأخوة الفرق بين التوكل والتواكل ، فالتوكل فيه أخذ بالأسباب الشرعية،والتوكل الصحيح أن يأخذ بالأسباب الشرعية المقدور عليها .
ترك الأسباب ..ومن ترك التوكل طعن في التوحيد..ومن ترك الأسباب نقص في العقل..
والأسباب ولو كانت يسيرة وضعيفة؛ يبذلها العبد..والله سبحانه وتعالى يبارك فيها ويجعل فيها أثراً، والله علمنا ذلك في قصة مريم..
توكل على الرحمن في كل حاجة
ولا تؤثرن العجز يوماً على الطلب
ألم ترَ أن الله قال لـــــــمريم
إليك فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها
جنــــــته ولكن كل شيء له سبب
والتوكل على الله عز وجل يجمع علم القلب وعمل القلب
أن يعلم بأن الله مقدر الأشياء ومدبر الأشياء، وعمل القلب سكون القلب للخالق والاعتماد عليه والثقة به
فهذان أمران مهمان في التوكل يشمل التوكل علم القلب وعمل القلب..
1-أن يعلم بالأسماء والصفات..
2-أن يسكن ويفوض ويستسلم لله سبحانه وتعالى..
إذا ابتليت فثق بالله وارضَ به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
ما لامريء حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه
لا تيأســــــن فنعم القادر الله
والتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون في تحصيل الحظ من الرزق والعافية ومتع الدنيا ..الخ
كما يكون التوكل أيضاً في عبادته عز وجل و العبد إذا كان الله عزوجل غايته
فإنه يسكن ويهدأ ولا يضطرب ويسأل ربه ويدعو ، والتوكل على الله مع اسقاط الأسباب طعن في العقل والدين أيضاً لأننا قد أمرنا بالعمل
الأمور التي تضاد التوكل:
1-التطير والتشاؤم ..قال صلى الله عليه وسلم ( لاطيرة )..
2- ولابد في التوكل على الله من السعي في طلب الرزق
وهذا مهم جداً في عصر شاعت فيه البطالة والله أرشدنا وفتح أبواب لطلب الرزق وأشياء مذكورة في الكتاب والسنة..
أ- فأول وأعظم سبب للرزق وأحل الحلال في الأرض هو غنائم القتال (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً)
فالعلماء تناقشوا في قضية ماهو أطيب الرزق وأحل الحلال تجارة زراعة وصناعة..
قالوا : إن أحل الحلال على وجه الأرض غنائم المعارك في سبيل الله لأن الله قال ( فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً) والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (جعل رزقي تحت ظل رمحي)
ب-العمل باليد فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ماأكل أحد طعاماً قط خيراً من عمل يده)
وقال : (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه)..
ج-التجارة وهذي عمل كثير من المهاجرين وكذلك الأنصار( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)..
د-الحرث والغرس والزرع، وقال أن الزراعة فيها ميزة في التوكل على الله أكثر من غيرها
فالمزارع إذا بذر عنده في قلبه توكل على الله أكثر من التاجر ، كلهم يحتاجون التوكل
ثم إن الإنسان يبذل الأسباب في العلاج ، غير طلب أسباب الرزق، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء) ( تداووا عباد الله) والتداوي ماهو إلا أخذ بالأسباب في هذا المجال
فوائد التوكّـــــــــــل
1-بسببه النصر على الأعداء ( قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء)
2-يجلب المصالح ويدفع المضار والمصائب ويجلب الرزق ويعجل الشفاء ..
3-التوكل على الله سبب لقوة القلب ونشاطه..
4-وقاية من الانهيارات النفسية والعصبية..
5-يباعد بين الإنسان والانتحار وما يفعله هؤلاء الذين عدموا التوكل
6-سبب للحفظ في النفس والمال والولد والأهل ( قال الله على مانقول وكيل) يعقوب قالها لبنيه..!
( إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)
7-التوكل على الله يبعث في القلب الحماس والعزيمة للعمل لأنه فيه فتح لباب الأخذ في الأسباب والأسباب المشروعة
8-والتوكل على الله يرفع الروح المعنوية حتى لو أصاب الإنسان مصائب وشدائد
9-التوكل على الله يجلب الرزق كما يرزق الطير وقد تقدم الكلام في هذا..
10-التوكل على الله يحقق النتيجة
11-من توكل على الله يشعر بمعية ربه له أنه معه ناصره مغنيه كافيه واقيه..
12-التوكل على الله يجلب محبة الرب للعبد,وكذلك العبد يحب الرب نتيجة التوكل، لأنه يرى آثار توكله على ربه وكيف أن الله يعطيه على نيته وتوكله عليه فيحب ربه..
13-التوكل من حققه دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب وهذا أعظم ثمرات التوكل
14-التوكل على الله عز وغنى ..
قصص مع المتوكلين وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم..
لما نزل مع أصحابه في واد فعلق سيفه في شجرة فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر فلم يرعهم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم
فأتوه فإذا بشخص و سيف ساقط فقال الرسول إن رجلاً أتاني وأنا نائم فاتخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلفاً أي مسلولاً..
انتبه النبي والسيف فوق رأسه..أين المهرب..؟!..فقال من يمنعك مني ..؟!!
قلت: الله..هذه كلمة فيها التوكل والتفويض والاستعانة وكل شيء..قال: فشام السيف أي أغمده..وفي رواية سقط السيف من يده.. هاهوذا جالس..كما في صحيح مسلم..
النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار, أبو بكر خائف على النبي أكثر من خوفه على نفسه يقول : (يارسول الله لو نظر أحدهم إلى ما بين قدميه لأبصرنا) مابيننا وبين الهلاك إلا نظرة تحت!!..قال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما..؟!!، هذا هو التوكل والتفويض يظهر فعلاً في أوقات الأزمات جلياً واضحاً..أن هذا العبد قلبه مفتقر إلى الرب متوكل عليه مفوض أمره إليه خصوصاً إذا لم يكن هناك أسباب تتخذ إلا تفويض الأمر إلى الله
وجاء الإنكار من ابن عباس رضي الله عنه على بعض أهل اليمن الذين يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس مدوا أيديهم..فأنزل الله ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)..
وهناك قصة لطيفة لامرأة رواها الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن امرأة خرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزاً لها وصيصيتها"السيخ الذي ينسجون به الغزل" كانت تنسج بها، ففقدت عنزاً من غنمها وصيصيتها فقالت ياربي إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه وإني قد فقدت عنزاً وصيصيتي
وإني أنشدك عنزي وصيصيتي ، فجعل رسول الله يذكر شدة مناشدتها لربها سبحانه وتعالى وشدة توكلها على الله وخرجت في سبيل الله ومعتمدة أن الله يحفظ مالها
ولما عادت لم تقول أن الله أخلف وعده ولكن نشدت ربها ماوعد به وأخذت تلح وتلح…
قال صلى الله عليه وسلم : (فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها ومثلها)..رجع مضاعفاً..!!نامت على الدعاء والتوكل ووجدته مضاعفاً من عند الله..!!
قد يقول بعض الناس ماذا نقول في قصة خالد بن الوليد لما شرب السم، أو ما جاء عن عمر أنه أكل مع مجذوم..
قصة خالد مشهورة في كتب التاريخ، أنهم حاصروا حصناً فقال الروم لا نسلّم(نستسلم) حتى تشرب السمّ..
وحكم شربه حرام لا يجوز( من تحسّى سمّاً فقتل نفسه فسمّ تحسّاه في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ، خالد في وقت حرج، استسلام هؤلاء يعني حماية المسلمين وإبعاد الأذى عنهم في الحرب والجراحات فيه مصلحة عظيمة،
والروم هؤلاء كأنهم يريدون شيء من الكرامات يستسلمون لهؤلاء – تحدّي- فأخذه خالد ثقة بالله وتوكلاً على الله وشرب ولم يضره وسلم الروم..
هذه حالة خاصة ونادرة لم يكن أخذه لها بسبب الانتحار وإنما وجد خالد مصلحة عظيمة للمسلمين و وجد في نفسه توكل على الله كبير وهذا شيء يشعر به ربما بعض أولياء الله في بعض الحالات..، لم يضره من التوكل..، ولكن هذا لا يقع مع أي أحد..
وكذلك تحمل قصة عمر رضي الله عنه لمن أراد الإثبات والبرهنة لمن يعتقد أن العدوى لابد أن تصيب
فوجد في نفسه شدة وصحة توكل وقوة في القلب لإثبات للناس أنه لا عدوى ، ولكن هذه حالات خاصة تكون مع أولياء الله وليست القضية على إطلاقها فالأصل باقِ على ماهو عليه..
الدرس الخامس: الخــــوف
من مادة خ و ف التي تدل على الذعر والفزع في اللغة العربية، خفت الشيء خوفاً وخيفة وخوّف الرجل جعل الناس يخافونه
(( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه))
أي يجعلكم تخافون أولياءه أي يخوّفكم بأوليائه.
والخوف توقع مكروه لعلامة مظنونة أو معلومة، وهو ضد الأمن
ويستعمل في الأمور الدنيوية أو الآخروية فهو توقع حلول مكروه أو فوات محبوب،اضطراب القلب وحركته أو فزعه من مكروه يناله أو محبوب يفوته.
قال ابن قدامة: اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال ..
والخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله (( إنما يخشى الله من عباده العلماء))خوفاً مقروناً بمعرفة ..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية))
فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء والعارفين، وعلى حسب قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية..
فصاحب الخوف يلجأ إلى الهرب، وصاحب الخشية يلجأ إلى الاعتصام بالعلم…
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – : (( الخشية خوف مبني على العلم بعظمة من يخشى وكمال سلطانه))..
فإذا خفت من شخص لا تدري هل يقدر عليك أم لا فهذا خوف وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية..
وقد ورد الخوف في القرآن على وجوه منها..
1-القتل والهزيمة : ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف))، (( ولنبلونكم بشيء من الخوف )).
2-الحرب والقتال: (( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد)) إذا انجلت الحرب ،(( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت)).
3-العلم والدراية : ((فمن خاف من موصٍ جنفاً)) أي علم ، ((إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله )) أي يعلما..
((وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)) أي علمتم.
4-النّقْص: ((أو يأخذهم على تخوّف)).
5-الرعب والخشية من العذاب والعقوبة : (( يدعون ربهم خوفاً)).
قال ابن قدامة: (( اعلم بأن الخوف سوط الله يسوق الله به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله عزوجل، والخوف سراج القلوب به يبصر ما فيه من الخير والشر))..
وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزوجل فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من ربه إلى ربه فأين المفر..؟!!!، وما فارق الخوف قلباً إلا خربه فإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات فيها وطرد الدنيا عنها..
والخوف ليس مقصوداً لذاته ، ليس المقصود أن نخاف لأجل أن نخاف بل نخاف ليكون الخوف وسيلة تصلح أحوالنا.
لو كان الخوف مقصوداً لذاته لما ذهب عن أهل الجنة!!
لكن لما كان دخول أهل الجنة الجنّة مهياً القضية وما هو مطلوب منهم وليس فيها عمل ولا اجتهاد في العبادات ومقاومة للهوى والشهوات كان الخوف من أهلها ذاهب
(( لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)).
ومن خاف اليوم أمِنَ غداً.. ومن أمِن اليوم خاف غداً.
والخوف يتعلق بالأفعال ، والمحبة تتعلق بالذات والصفات، ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف
وكرر الله سبحانه وتعالى ذكر النار وما أعده الله فيها لأعدائه من العذاب والنكال وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيه من العظائم والأهوال
ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه وامتثال والمسارعة إلى ما يأمر به ويحبه ويرضاه واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه
القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والكف عن دقائق الكروهات (يعني فعل المستحبات وترك المكروه والشبهة)،
كان ذلك خوفاً محموداً فإن تزايد الخوف بحيث أدّى إلى مرض أو موت أو همٍّ لازم أو قعود عن العمل بحيث يقطع السعي عن اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن خوفاً محموداً.
بعض الناس من شدة خوفهم من العذاب والنار يصابون باليأس والاحباط والقعود عن العمل ويقولون لا فائدة!!.. ليس هذا هو المطلوب ..وهذه الزيادة مذمومة..
الخوف المطلوب: الذي يحمل على فعل المستحبات وفعل الواجبات قبلها وعلى ترك الشبهات والمكروهات وترك المحرمات قبلها
وهناك خوف ضعيف أقل من هذا ، لا يؤدي إلى ترك المحرمات كلها أو فعل الواجبات كلها فهو خوف ناقص..
ذكر البخاري في قوله : (باب الخوف من الله عز وجل ).
قال ابن حجر: هو من المقامات العليّة وهو من لوازم الإيمان ، قال الله تعالى : ((وخافونِ إن كنتم مؤمنين))(( فلا تخشوهم واخشونِ))((إنما يخشى الله من عباده العلماء))
وتقدم حديث (( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ))، وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه وقد وصف الله الملائكة بقوله : (( يخافون ربهم من فوقهم ))
والأنبياء بقوله : (( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله ))
وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة..
فالعبد إن كان مستقيماً فمن أي شيء يخاف؟!!
فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى : (( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه))، وكذلك يخاف من نقصان الدرجة..
وإن كان مائلاً منحرفاً وعاصياً فخوفه من سوء فعله و ينفعه ذلك مع الندم والإقلاع..
متى ينفع الخوف؟
ينفع مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد أو أن يحرم التوبة أو لا يكون ممن شاء الله أن لا يغفر له.
ماحكم الخوف من الله؟
الخوف من الله واجب، وهو من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد كم قال ابن القيم، إذاً يجب الخوف من الله ومن لا يخف فهو آثم.
قال ابن الوزير: (( أنا الأمان فلا سبيل إليه ، وهو شعار الصالحين)).
أدلة وجوب الخوف
1- ((إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين))
قال ابن سعدي –رحمه الله- : (( وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده وأنه من لوازم الإيمان فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفهم من الله)).
2- (( وإياي فارهبون)) ، والأمر يقتضي الوجوب.
3- (( فلا تخشوا الناس واخشون)).
4-إن الله امتدح أهل الخوف ، فقال: (( الذين هم من خشية ربهم مشفقون..))((أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)).
5-والتخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل (( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين))
والإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يخيف
وقد وصف الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نذير في مواضع كثيرة..
-جمع قومه على الصفا وقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد (أنا النذير العريان)،
– (وقل إني أنا النذير المبين).
– (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين).
-كان من أوائل أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإنذار (يا أيها المدثر قم فأنذر)
وقد وصف الله العذاب في كتابه في عدة مواضع لتحقيق الخوف في نفوس عباده ليتقوه
كما قال تعالى: ((لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عبادِ فاتقون)).
قال ابن كثير: ( يخوف الله عباده) إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوّف به عباده. قال : لينزجروا عن المحارم والمآثم.
(يا عبادِ فاتقون) أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.
وبين سبحانه أن مايرسله من الآيات لتصديق الأنبياء عليهم السلام كناقة صالح إنما يرسله من أجل التخويف(( وآتينا ثموداً ناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)).
كذلك الآيات الكونية كالخسوف والكسوف وغيرها.
وكذلك قال الله في البرق والرعد: ((هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال)).
من فوائد الخوف
1-أن الله جعله شرطاً لحصول الإيمان ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
2-ابتلى الله الصحابة رضي الله عنهم بابتلاء عظيم ليظهر الذي لا يخاف من الذي يخاف في الصيد
(( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)).
ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال الإحرام كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به المنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه،
يختبر ليظهر من الذي يخاف الله والذي لا يخافه (( ليعلم الله من يخافه بالغيب))
فالمرء قد يتعرض أحياناً لمعصية أو شهوة والوقوع فيها يسير جداً وقد تكون الفضيحة مأمونة (( ليعلم الله من يخافه بالغيب))،وكما في قصة يوسف وامرأة العزيز، هنا يكون الاختبار والبلاء.
3-الخوف من الله عبادة قامت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت نفسه عن المحرمات والمحظورات لأنه يخاف رب الأرض والسموات (( ققل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين)).
4-الخوف من الله من صفات أولي الألباب(( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب* الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)).
ثمرات الخوف من الله
أ- في الدنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــا ..
1-من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر
قال عز وجل : (( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد))
2-يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه وعدم طلب المقابل في الدنيا فلا ينقص الأجر في الآخرة
(( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً))
ب – في الآخــــــــــــــــــــــــــرة..
1-يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة (( ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله))
ظاهر الحديث أنه يقولها بلسانه ليزجر المرأة عن فعلها وليذكر نفسه ويصر على موقفه ولا يتراجع بعد إعلان المبادئ، ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
2-من أسباب المغفرة، شاهد ذلك الحديث: رجل كان فيمن قبلنا عنده جهل عظيم ورزقه الله مالاً فقال لبنيه لما حضره الموت: أي أب كنت لكم؟
قالوا: خير أب ، قال: فإني لم أعمل خيراً قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ، ففعلوا وما أسهل أن يعيده الله كما كان،
قال : ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته..!!، فعذره الله بجهله وشفع له خوفه من ربه وإلا فالذي ينكر البعث كافر.
3- يؤدي إلى الجنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة))
4-يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة:
(( وعزتي وجلالي، وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة)).
5-سبب للنجاة من كل سوء، (( ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية)) فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء
لأنه قال ووعد الله لا يخلف وهذا رسوله (منجيات) وعمّم تشمل الدنيا والآخرة.
6-يصبح الإنسان ممدوحاً مثني عليه ويكفيه فخراً أن يدخل في أصحاب الأسماء والألقاب الشريفة (( المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والصائمين والصائمات والقانتين والقانتات والذاكرين والذاكرات والحافظين فروجهم والحافظات))
((أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)).
((والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون)).
وأثنى الله على أقرب عبادة وهم الأنبياء لخوفهم منه (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً)).
بل الملائكة (( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)).
تكدر اللذات المحرمة بتذكر عذاب الله و وعيده لمن وقع فيها فتتكدر لذته المحرمة بتذكر مابها من عذاب.
قال ابن القيم –رحمه الله- : كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سمّاً ، فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح و يذل القلب ويستكين ويفارقه الكبر والحقد والحسد
ويصير مستوعب الهم لخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيرع ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والظنّة(البخل) بالأنفاس واللحظات ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات
ويكون حاله (الخائف) كم وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أيغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلكه ولا شغل له إلا ما وقع فيه ، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف وقوة المعرفة بجلال الله تعالى وصفاته وبعيوب نفسه وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
7-الرضا من الله ((رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه)).
الأسباب الجالبة للخوف
الخوف ليس مقصوداً لذاته بل لما بعده من فعل الواجبات وعدم تركها والبعد عن المحرمات وعدم ارتكابها وإذا زاد يمكن أن يكون فعل مستحبات وترك مشتبهات وإذا زاد أكثر يصبح مذموماً وإذا نقص عن هذا يكون أيضاً ناقصاً لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة
فمن الأسباب الجالبة للخوف:
1-سابق الذَّنب الذي وقع فيه.
2-حذر التقصير في الواجبات.
3-الخوف من المصير أن يكون على ما يكره.
4-إجلال الله و تعظيمه(( يخافون ربهم من فوقهم)).
5-الخوف من الله يتعلق بقضيتين..
أ – الخوف من عذابه..
ب – الخوف من الله..
الناس العامة ينزعون إلى الخوف من النار أكثر ، وأهل الفقه والعلم خوفهم من الله قبل خوفهم من ناره
لأن العامة قد يكون فهمهم وعلمهم قليل وبساطة فأحياناً لا يتذكر من كل القضية إلا النار، وقد لا يستوعب أن الخوف من الله قبل الخوف من ناره أول وأكبر وأعظم
ولذلك قال ابن قدامة رحمه الله: (( في مقامي الخوف المقام الأول الخوف من عذاب الله وهذا خوف عامة الناس وهذا النوع من الخوف يحصل بالإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية ، المقام الثاني الخوف من الله نفسه عزوجل وهو خوف العلماء والعارفين لأنه يكفيهم فقط ثلاث كلمات (( ويحذركم الله نفسه))
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنا أعرفهم بالله وأشدهم له خشية))، وقال الله تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء))
6-تتأمل النجاة لمن ، وتقارن نفسك بصفاتهم (( وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)).
و كما في سورة العصر حيث أقسم الله أن الناس في خسران واستثنى (( الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)).
7-تدبر كلام الله ورسوله والنظر في سيرته
يقول ابن الجوزي: (( والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه)).
8-التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، فإنه من تفكر في ذلك خاف الله لا محالة لأن التفكر يوقعه على صفات الله جل جلاله وكبريائه
ومن شهد قلبه عظمة الله وكبرياءه علم شأن تحذيره عندما قال: (( ويحذركم الله نفسه)) أي خافوه واخشوه بما أبدى لكم من صفاته وأسمائه وعدله عز وجل
9-التفكر في الموت وشدته وأنه لا مفر منه (( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم))
ألا رب ذي أجل قد حضر
كثير التمني قليل الحذر
إذا هزّ في المشي أعطافه
تعرفت من منكبيه البطر
يؤمِّل أكثر من عمره
ويزداد يوماً بيومٍ أشر
10 – التفكر فيما بعد الموت، في القبر وأهواله
قال صلى الله عليه وسلم : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنه يرقّ القلب وتدمع العين تذكر الآخرة ولا تقول هجرة)).
11-إذا قدم إلى القيامة وأهوالها وحديث البعث والنشور إلى ذبح الموت
(( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)).
12-إذا دخل أهل النار النار.. ماذا يوجد فيها من الأهوال في شدة عذابها؟!!..
((إنها لإحدى الكبر)).
وكيف قرت لأهل العلم أعينهم
أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
والموت ينذرهم جهراً علانية
لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له
أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
لينفع العلم قبل الموت عالمه
قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا
13-تفكر العبد في ذنوبه وأنه نسيه والله تعالى أحصاها ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاه
وأن الله يمكن أن يعطيه النعم استدراجاً (( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً))
14-التفكر في عاقبة محقرات الذنوب التي يحقرها الناس ، وقد مثلها النبي صلى الله عليه وسلم بقوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم
وهناك ارتباط بين الأعواد وإيقاد النار وبين الذنوب وما تسبب من نضج جلود العصاة(( كلما نضجت جلودهم)).
15-أن يعلم العبد أنه قد يحال بينه وبين التوبة بموت مفاجيء ، تسويف، شبهات ، إصرار على المعصية والشهوات، فتنة مضلّة، والحسرة حينها لا تنفع
(( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت))
16-التفكر في سوء الخاتمة حينئذ (( والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم))
وملك الموت كيف يسحب روح الفاجر فيتقطع فيها كل عرق و عصب وكيف يجعل في كفه من النار وحنوط له من جهنم..
17-تجالس ناس يكسبونك خشية وخوف من الله من الصالحين والعلماء المتقين
(( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه))صاحب أصحاب الخشية
اصحب سير الخائفين من الله ..
-الإمام أحمد و خشيته..
-ابن عباس رضي الله عنه كان تحت عينيه خطّان كالشراكان الباليان أخاديد من الدموع.
-عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ آيات فمرض مرض عاده الناس من بعده.
-عائشة تقرأ قوله تعالى : (( فمنّ الله علينا فوقانا عذاب السموم)) في صلاتها فتبكي وتبكي..
((إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)).
-أبو بكر رضي الله عنه يمسك لسانه ويقول (( هذا الذي أوردني المهالك))، (( يا ليتني كنت شجرة تؤكل)).
وغيرهم ممن يخافون الله ويخشونه..
18-سماع المواعظ وبعض الخطب.
19-العلم بالله وأسمائه وصفاته وكلامه وكلام رسوله.
20-الدعاء.
مقصود في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يرزقه الخشية: (( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك)).
موانع الخوف
الخوف تمنعه أشياء منها المعاصي، الدنيا، الرفقة السيئة، الغفلة وتبلّد الإحساس..
الخوف القاصر نوع خطير من الخوف
وهو أن يحضر موعظة ويسمع ويتأثر ثم يمشي..
هذا خوف لا يكفي وإنما العبرة بما وقع نفع و دخل واستقر..
المطلوب الخوف المستمر..
قال أحد الصحابة: (( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل إنها موعظة مودّع ماذا تعهد إلينا؟ فأعطاهم صلى الله عليه وسلم الوصية)).. انظر إليهم .. يريدون التطبيق..
ويتكلم عن حال السلف ابن المبارك –رحمه الله-:
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
وأهل النوم في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود
أنين منه تنفرج الضلوع
وخرسٌ بالنهار لطول صمت
عليهم من سكينتهم خشوع