إن من أهم معالم النشاط الدعوي في مجتمعات المسلمين اليوم انتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم ومدارسه؛ فلا تكاد تجد بلداً من بلاد المسلمين إلا وفيه جمعيات وحلقات تُعنى بتحفيظ القرآن الكريم للذكور والإناث.
والعودة للقرآن الكريم وحفظه والاعتناء به ظاهرة صحية؛ فقد كان من منهج السلف الاعتناء بحفظ القرآن الكريم. قال الإمام النووي: «كان السلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن»(1).
وعدَّ ابن جماعة الأدب الأول من آداب طالب العلم في دروسه: «أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها»(2).
ومن يتأمل نتاج هذه الحلقات والمدارس يرى ما يسر ويستحق الإشادة؛ فأعداد الحُفَّاظ والحافظات في نمو وازدياد.
ونتاج هذه الحلقات والمدارس يتجاوز مجرد الحفظ، بل هي تترك أثرها في توجيه الناشئة واستقامتهم، وهي في الأغلب لا تقتصر على مجرد تدريس القرآن الكريم وحفظه، بل يصحبها العديد من النشاطات والبرامج التوعوية.
والعمل البشري مهما بلغ من النجاح والتميز يحتاج إلى التسديد والتطوير والارتقاء.
ولعل من مجالات التطوير تغيير المسمى من (تحفيظ القرآن الكريم) إلى (تعليم القرآن الكريم).
وتغيير المسمى من وجهة نظري ليس مجرد أمر شكلي، بل هو موضوعي له مبرراته، ومن أهمها:
< أنه الوصف الذي جاء في القرآن الكريم، قال ـ عز وجل ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].
< وهو أيضاً الوصف الذي أثنى به – صلى الله عليه وسلم – على أصحابه؛ فعن عثمان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»، وفي رواية أخرى: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»(3). وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: «حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة»(4).
< أن تغيير الاسم سيقود إلى توسعة مجالات الاعتناء بالقرآن الكريم؛ إذ الواقع أن حِلَق القرآن الكريم ومدارسه تركز بشكل أساس على حفظ القرآن الكريم، وهو رغم أهميته لا يكفي؛ فلا بد من تنوع الاهتمام ليشمل ما يلي:
ـ تصحيح تلاوة القرآن الكريم لمن لا يجدون الوقت للحفظ؛ وبالأخص ممن تقدمت أعمارهم.
ـ تنمية القدرة على فهم القرآن الكريم وتدبره، وهو أمر لا يحظى بالعناية اللائقة به في مؤسسات تحفيظ القرآن الكريم؛ فيتخرج الطالب والطالبة من هذه المؤسسات وهو قد أتم حفظ القرآن الكريم أو معظمه، دون أن يتلقى أدوات فهم القرآن الكريم وتدبره، ويقتصر الأمر على توجيه أو تأكيد في الكلمات والمناسبات العامة.
إن المسلم بحاجة لأن يتعلم أدوات فهم القرآن الكريم، وهو أمر إن لم يتم في مؤسسات تحفيظ القرآن فأين تكون العناية به؟ وهل يسوغ أن يترك ذلك للجهد والقدرة الشخصية للطالب والطالبة فحسب؟
ـ التـربيـة على أدب القـرآن وخُلُـقه، وهـو منـهج السـلف رضـوان الله عنهم؛ فقد روى الإمام أحمد عن أبي عـبد الرحـمن قـال: «حدثنـا مـن كان يُقـرِئنا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم كانوا يقترئون من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل. قالوا: فعلمنا العلم والعمل»(5).
إنه مجرد رأي آمل من إخواني الذين شرفهم الله بتعليم القرآن الكريم أن يتأملوه، وهم في النهاية أعلم بشؤونهم، والله ولي التوفيق
—————————-
(1) المجموع شرح المهذب ج 1، ص 38.
(2) تذكر السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (166 ـ 167).
(3) رواهما البخاري 5027، 5028.
(4) البخاري 6479، ومسلم 143.
(5) مسند الإمام أحمد (22971).
يزاج الله خير