تخطى إلى المحتوى

الهجرة النبوية وإستراتيجية العمل الإسلامي

  • بواسطة

من الثابت يقينا، أن الهجرة النبوية معلم من المعالم النبوية التي تضيء الطريق أمام العاملين للإسلام وفق إستراتيجية إسلامية صحيحة تعينهم على تصحيح مسار العمل الإسلامي في عالمنا المعاصر، وذلك عن طريق كشف عوار الفهم الخاطئ الذي أوقع العمل الإسلامي في براثن التخلف الحضاري، ولهذا فسوف أقوم بعرض قضية الهجرة النبوية على النحو الآتي:

أولاً:الرؤية الإسلامية لقضية الهجرة:

إن الهجرة تعني معرفة الحق، ومن ثم الارتحال إليه، والالتزام والثبات عليه، وهي طريق الرسل والذين يسيرون على دربهم، وثمرة الإيمان الطبيعية التي تقتضي التحرك به، وموقع من مواقع الصراع الدائب بين المؤمنين بقيادة الرسل وبين الكافرين بمناهجهم التي يقف على رأس كل منها شيطان.

وعلى هذا فالهجرة في الإسلام حركة إيجابية تمثل قمة الفاعلية على الأرض، وليست حركة سلبية انسحابية هروبية من الموقع يؤثر صاحبها السلامة ويختار طريق الدنيا.

ويمكننا أن نقول باطمئنان بأنه لولا الهجرات الإسلامية في القديم والحديث لما استقر الإسلام في كثير من بلدان العالم ولما وصل إليها، ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن بعض بلاد أفريقيا فتحت أكثر من مرة، ولم يستقر الإسلام فيها إلا بالهجرة إليها والاستيطان هناك.

ثانيا:الهجرة الإسلامية هجرة هداية وليست هجرة جباية:

لقد كانت قولة الأنبياء جميعاً على طريق الدعوة إلى الله: }وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ{ الشعراء: (109)، وما من نبي إلا كانت له حرفة يعيش منها لذلك فمن المعالم الأساسية على طريق النبوة أن الحضارة الإسلامية حضارة هداية وليست وسيلة جباية .. ومن هنا فإن عملية الاحتراف بالإسلام والأكل به وقبض ثمن العمل الإسلامي من أخطر التحديات التي تهدد الكيان الإسلامي وتواجه عالم المسلمين اليوم، والفرق بعيد بين الذين يدفعون ثمن عقيدتهم، وتكون حركتهم محكومة بقولة الأنبياء: }وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ{، وعمل الأنبياء، ويكون نشاطهم كله في سبيل الله: }قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{ الأنعام: (162، 163)، وبين الذين يحاولون قبض ثمن الدعوة سواءً أكان ذلك من داخل العمل أم من خارجه، فالهجرة الإسلامية إنما هي هجرة هداية وليست هجرة جباية فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

ولقد صور لنا القرآن الكريم هجرة الرعيل الأول بقوله تعالى: }لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ { الحشر: (8).

وهكذا يبرز لنا القرآن الكريم حضارة الأمن والهداية، بأنها لا تكون بالأماني والأحلام والادعاء، وإنما هي جهد ومعاناة وتضحية وفداء، ابتغاء وجه الله وعدم استعجال وارتجال.

ثالثاً:إستراتيجية التخطيط في الهجرة النبوية: ومما أصاب العمل الإسلامي بالضعف، وعدم المشاركة في موكب الحضارة الحديثة عدم استخدامه إستراتيجية التخطيط والتنظيم في ميدان العمل. والحق أن الذي يتعمق في دراسة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته، يتبين له أن الارتجال والعشوائية مرفوضان. فالقرآن الكريم يخبرنا أن كل شيء في هذا الكون قائم ــ بأمر الله ــ على التنظيم والنظام.

ومن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يعد لكل أمر عدته، ويهيئ له أسبابه وأهميته، آخذاً حذره، مقدراً كافة الاحتمالات، واضعاً ما أمكنه من الاحتياطات مع أنه كان أقوى المتوكلين على الله تعالى، والهجرة النبوية خير مثال على تخطيطه وحسن تدبيره للأمور مع توكله على ربه سبحانه وتعالى، ولبيان ذلك نتناول قضية الهجرة إلى الحبشة، والهجرة النبوية إلى المدينة:-

1-الهجرة إلى الحبشـة:

حين اشتد أذى المشركين على المسلمين أمر النبي أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ولم يأت هذا الأمر مجازفة بل كان نتيجة معرفة بالظروف الجغرافية، والدينية والسياسية للحبشة في ذلك الوقت.

فلم يكن من الحكمة ولا من حسن الخطة أن يأمرهم بالهجرة إلى مكان مهما بعد في شبه الجزيرة العربية فإن قريشاً بما لها من نفوذ ديني وأدبي تستطيع أن تلاحقهم.

ولم يكن من الحكمة ولا من حسن الخطة أن يذهبوا إلى بلد تحت سيطرة الفرس أو الروم، حيث يحكمها أباطرة لا يقبلون مثل هذه الدعوة الجديدة.

ولقد كانت الحبشة هي المكان المناسب دينياً، فقد كان يحكمها رجل اشتهر بالعدل، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ». [رواه ابن إسحاق- فيما نقله ابن هشام في السيرة 1/321 ].

وهذا يدلنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لم يكونوا في عزلة عن العالم من حولهم رغم صعوبة المواصلات بين الأقطار بعضها ببعض.

2-هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:

وأوضح من ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، ففيها يتجلى التخطيط فقد أعد عليه الصلاة والسلام من جانبه كل ما يستطيع البشر إعداده من الوسائل والاحتياطات على النحو الآتي:

1-لقد اطمأن إلى المهجر الذي سينتقل إليه، بعد أن بايع المؤمنين من الأوس والخزرج بيعة العقبة الأولى والثانية، واشترط لنفسه أن يمنعوه من أنفسهم وذراريهم.

2-ومن إحكام الخطة ودقتها وذكائها إيهام قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم راقد في فراشه، فلم يترك الفراش خالياً، حتى لا تبعث مكة رسلها في طلب النبي صلى الله عليه وسلم، بل أناب مكانه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليبيت في فراشه.

3-اطمأن إلى الرفيق الذي سيصحبه في رحلته الجاهدة بما فيها من أخطار، ورتب الدليل الذي يدله على الطريق، وما فيه من منعطفات ومخابئ يمكن أن تضلل عن أعين الطالبين.

4-ولم تكن الهجرة مباشرة إنما كان القرار النبوي العظيم ابتداءً بالذهاب إلى غار ثور للإقامة به.

5-أعد فريق الخدمة الذي يأتي بالزاد والأنباء خلال تلك الأيام، فكانت أسماء بنت أبي بكر وأخوها عبدالله، ومن بعدهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر بغنمه فيحلبون منها ويعفى على آثار أسماء وعبدالله، بحيث لا يستطيع العدو أن يتابع الأثر ويصل إلى موقع الصاحبين فيه.

ومع هذا الإحكام الدقيق، كادت الخطة تخفق، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الغار، ويقفوا على بابه، وكان يكفي لكشف الأمر وإفساد الخطة أن ينظر أحد القوم تحت قدميه ليرى الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، وهذا ما خشيه أبو بكر وصرح به للرسول صلى الله عليه وسلم فقال كلمته المشهورة: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»؟ وهنا تجلى دور التوكل الحق، فبعد أن يبذل الإنسان ما في وسعه ويتخذ من الأسباب والخطط ما يقدر عليه، يدع ما لا يقدر عليه من مفاجآت القدر لله وحده. يقول الله تعالى مصوراً هذا التوكل الحق: } إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ التوبة: (40).

ومن هنا تتجلى فوائد التخطيط فيما يأتي:اختصار الزمن، الاقتصاد في الإنفاق، اختصار الجهود، البعد عن الضياع والارتجال، سد الثغرات أمام المفسدين في مجال العمل الإسلامي.

البيان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.