الحكمة من إبتلاء الأطفال بالمكاره والآلام
الإسلام اليوم – د. علي بن سعيد العبيدي
يرد أحيانًا السؤال عن الحكمة من ابتلاء غير المكلفين من الأطفال بالأمراض والمظالم، والحكمة من ابتلائهم بالفقر والحرق والغرق وغير ذلك من الآلام المتنوعة والمكاره المتعددة.
والواقع إن ما يصيب الناس عموما، وما يصيب الأطفال خصوصا من الآلام والمكاره يتضمن الكثير من الفوائد والحكم، والتي يمكن إدراكها والوقوف عليها من خلال نصوص الوحي، ففيها للمتأمل الإجابة الكافية الوافية.
ولكون هذه المسألة من المسائل التي يثيرها الملاحدة؛ لصد الناس عن الإسلام، أو لتشكيك المسلمين في دينهم، فسيطول النفس في جوابها قليلاً، فأقول:
في البداية يجب أن نعتقد أنَّ جميع ما يقع في هذا الكون من خير وشر هو ابتلاء مقدر مكتوب كما قال الله تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" [الأنبياء:35]، وأنه يقع وفق حكمة إلهية منزهة عن العبث كما قال سبحانه: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" [الدخان: ٣٨ – ٣9]، والله تعالى هو الحكيم، الموصوف بالحكمة البالغة في خلقه وشرعه "وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" [التحريم:2]. الذي يضع الأشياء في مواضعها لغايات محمودة منه تعالى.
وهذه الحكمة قد ندركها ونقف على أسرارها في وقتنا الحاضر، وقد نجهلها وتخفى علينا ليعرفها من يأتي بعدنا "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" [الإسراء:85]، وكم من الأشياء التي آمنت بها الأجيال الماضية ولم تقف على حكمتها التي تجلت لنا -أو بعضها- في هذا الزمن بما يناسب عصرنا، وفي كل ذلك حكمة.
وعليه فيجب علينا أن نعتقد إن الله تعالى منزه عن الظلم "وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" [الكهف: ٤٩]، وأنه سبحانه "لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ" [النساء:40]، وأن أفعاله كلها خير لا شر فيها، وما قد يراه الناس شرا فهو شر نسبي، بمعنى أنه يتضمن خيرا قد يخفى على البعض حتى على المبتلى به كما سيمر.
وبعد هذه المقدمة يمكن القول:
إن في البلاء النازل بالأطفال منافع ذاتية لهم، ومنافع متعدية لوالديه ولغيرهم ممن يشهدون البلاء، فمثلا: الظلم الذي يقع على الطفل ويكون أشده بإزهاق روحه ظاهره أنه شر محض، لكن الواقع خلاف ذلك تماما، ففي حصول هذه المظلمة -رغم قسوتها- منفعة ذاتية للطفل من حيث إنه سيكون يوم القيامة من الناجين من النار؛ لأن الله تعالى قد قضى أن الأطفال في الجنة، سواء أكانوا من أطفال المسلمين أم من أطفال المشركين على الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود والوليدة»(1)، وفي لفظ: «والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة»(2)، وهذا عام لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم: بأطفال المؤمنين دون غيرهم.
ومما يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي اللاهين(3) من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم»(4).
وبهذا يختلف أطفال المشركين عن والديهم في أحكام الآخرة، ويظهر عظم هذه النعمة على أطفال المشركين من حيث إن أحدهم لو عاش إلى ما بعد البلوغ لكان على دين آبائه -غالبا- فيموت يوم يموت وهو مشرك، ويكون يوم القيامة من أصحاب الجحيم، فكان موته صغيرا قبل التكليف ولو مظلوما خيرا له من موته بالغا مشركا.
ومن ابتلي من الأطفال بما دون القتل من المظالم انتصر الله له إن عاجلا في الدنيا وإن آجلا بالقصاص الأخروي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»(5).
ومن ابتلي بفقد البصر -وشب على ذلك مسلما- فصبر عوضه الله الجنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله -عز وجل- قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبر؛ عوضتُه عنهما الجنة»(6).
ومن ابتلي بالغرق، أو البطن، أو الحرق، أو الهدم وغير ذلك من المصائب العظام –كما في الحديث الآتي- كان شهيداً، وسواءً أكان صغيراً أم كبيراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة»(7).
ومن ابتلي بالأمراض الوبائية كالطاعون كان له أجر شهيد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم: لما سألته عائشة -رضي الله عنها- عن الطاعون؟ أخبرها «أنه كان عذاباً يبعثه الله –تعالى- على من يشاء، فجعله الله –تعالى- رحمة للمؤمنين، فليس عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله، إلا كان له مثل أجر الشهيد»(8)، وهذا للأطفال وغيرهم.
ويستفاد من الحديث أن ما يكون من الأمراض شراً وعذاباً لقوم يكون خيراً ورحمة لآخرين، وأن الله يثيب عليها المؤمنين.
ومن ابتلي بالفقر والحاجة سبق غيره في دخول الجنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام»(9).
وكلما عظم البلاء عظم الأجر الأخروي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض»(10).
إذن فما رآه الناس مما يصيب الأطفال من المكاره شراً وخسارةً في الدنيا كان خيراً وكسباً في الآخرة مع الصبر والاحتساب.
وأما المنافع المتعدية للوالدين فكثيرة منها:
تكفير سيئاتهم التي قد يطالهم بسببها العذاب المتوعد عليها في الآخرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه»(11)، ومن ذلك ما يصيب أطفالهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة»(12).
ومنها رفع درجاتهم -وكذا الأولاد المبتلين- إن لم يكن لهم ذنوب يستحقون بسببها العذاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لتكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها»(13).
ومنها كتابة الأجر العظيم لهم إذا ما صبروا واحتسبوا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»(14).
ومن هذا الخير أن الله يخلفهم خيرا مما نزل بهم مع الصبر والاحتساب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله و إنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي و أخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته و أخلف له خيرا منها»(15).
ومنه أيضاً أن الله يجعل موت الأطفال حجابا لوالديهم من النار مع الصبر والاحتساب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرأَين مسلمين هلك بينهما ولدان أو ثلاثة، فاحتسبا وصبرا، فيريان النار أبداً»(16).
ومنه قبول شفاعة الأطفال في والديهم يوم القيامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يُقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة» قال:«فيقولون: يا رب، حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا» قال: «فيأتون»، قال: «فيقول الله -عز وجل-: ما لي أراهم مُحْبَنْطِئِينَ؟(17) ادخلوا الجنة» قال: «فيقولون: يا رب آباؤنا، وأمهاتنا» قال: «فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم»(18).
ومنه إكرام العبد الصابر الحامد ببيت الحمد في الجنة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: فماذا قال عبدي؟ قال: حمدك واسترجع. فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»(19).
ومنه إدخال والديه الجنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من وُلِد له ثلاثة أولاد في الإسلام، فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث، أدخله الله -عز وجل- الجنة برحمته إياهم»(20)، ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قال لهن: «ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة؛ إلا أدخلها الله -عز وجل- الجنة» فقالت أجلُّهن(21) امرأةً: يا رسول الله، وصاحبة الاثنين في الجنة؟ قال: «وصاحبة الاثنين في الجنة»(22).
ومن فوائد الابتلاءات التي تصيب الأطفال وحكمها أيضاً، إنها تفتح للمسلم أبواباً كثيرة من الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى من عباده ويكافئهم عليها ويثيبهم، مثل: الدعاء، والشكر، والصبر، والاستغفار، والإيثار، والرحمة، والصدقة، وغير ذلك كثير، مما يكون سببا في زيادة حسناتهم، وحط سيئاتهم، ورفع درجاتهم.
ثم لو كانت الدنيا خالية من المكدرات والمنغصات والآلام التي تحل بالناس من جراء ما يصيب فلذات أكبادهم لكانت هي والجنة سواء، وعندئذ تقل رغبتهم في الآخرة أو تنعدم، وهذا ينافي الحكمة من خلق الموت والحياة، ومن جعل الدنيا دار ابتلاء واختبار والآخرة دار حساب وجزاء.
ومن المنافع والحكم لفت أنظار الناس إلى بعض سنن الله في كونه فيما يتعلق بانتقال الأمراض الوراثية مثلاً، وما قد يترتب عليها من أضرار خلقية تلحق بالأطفال من جراء زواج الأقارب؛ فيأخذوا بأسباب الوقاية التي هي من تمام التوكل الذي يحبه الله تعالى.
وكذا لفت أنظارهم إلى خطورة الوقوع في الممارسات الخاطئة التي حرمتها الشرائع السماوية، كارتكاب الفواحش الجنسية، وتعاطي المخدرات، وشرب المفترات كالدخان؛ لأنها قد تكون سببا مباشرا في حصول التشوهات الخلقية لدى الأطفال، وكم في هذا من إظهار لحكم الشريعة التي اختارها الله تعالى لعباده ورضيها لهم.
ومن الحكم أن ما يفوت الطفل من ذكاء وسلامة أعضاء وغير ذلك، قد يتضمن الخير الكثير له ولغيره، فكم من أناس كانت بعض النعم عليهم وعلى ذويهم ومجتمعاتهم نقما في مستقبل أيامهم، ولنا في قصة الخضر مع موسى عليهم السلام وقتله الغلام الزكي عبرة.
فالله خلص الولد وخلص والديه من شر كان سيحصل لو لم يمت الغلام، كما ذكر اللطيف الخبير.
ومن الحكم والمنافع المتعدية لمن يشهدون آلام الصغار وما ينزل بهم من المكاره حصول العظة والعبرة، واستشعار فضل الله عليهم ونعمه التي خصهم بها؛ فيوجب لهم ذلك شكر المنعم وتحقيق مزيد من العبودية والطاعة له وفعل الخيرات، ومنها تقديم العون للمبتلين أو دفع الظلم عنهم.
هذه بعض حكم ابتلاءات غير المكلفين من الأطفال، ولو ذهبنا نستقصي لخرجنا بأكثر من ذلك بكثير. والله أعلم.
(1) أخرجه أحمد (9/124برقم23535).
(2) أخرجه أحمد (7/347برقم20606)، وقال ابن حجر في الفتح (3/290):"إسناده حسن"، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/479برقم2200).
(3) اللاهين: هم الأطفال. انظر: فتح الباري (3/290).
(4) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (7/138برقم4101، 4102)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (3/290).
(5) أخرجه مسلم في البر والصلة (4/1997برقم2582).
(6) أخرجه البخاري في المرضى (5/2140برقم 5329).
(7) أخرجه أبو داود في الجنائز (4/13برقم1846)، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (1561).
(8) أخرجه البخاري في الأنبياء (3/1281برقم3287).
(9) أخرجه أحمد (2/512برقم10663)، والترمذي في الزهد (4/578برقم2351)، والطبراني في «الأوسط» (7/315برقم7605)، وأورده الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2/275) وصححه.
(10) أخرجه الترمذي في الزهد (4/603برقم2402) وأورده الألباني في «الصحيحة» (5/2206) وحسنه.
(7/315برقم7605)، وأورده الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2/275) وصححه.
(11) أخرجه البخاري في المرضى (5/2137 برقم 5317).
(12) أخرجه الترمذي في الزهد (4/602برقم2399)، وأورده الألباني في «الصحيحة» (5/2280) وصححه.
(13) أخرجه الحاكم (1/495برقم1274)، وأورده الألباني في «الصحيحة» (4/1599) وحسنه.
(14) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (4/2295 برقم 2999).
(15) أخرجه مسلم في الجنائز (2/631برقم918).
(16) أخرجه أحمد (8/108برقم21523)، والبخاري في «الأدب المفرد"باب: فضل من مات له ولد(56برقم150) ببعضه، وصححه الألباني(ص79)، وأورده في«السلسلة الصحيحة» (5/329برقم2260) وعزاه لأحمد وغيره.
(17) محبنطئين : المُحْبَنْطِىء -بالهمز وتركه- المتغضب المستبطئ للشيء، وقيل: هو الممتنع امتناع طَلبة، لا امتناع إباء. انظر: النهاية (1/331).
(18) أخرجه أحمد (6/410برقم16968) ولم أقف على من أخرجه سواه، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/95): "رواه أحمد ورجاله ثقات".
(19) أخرجه الترمذي في الجنائز (3/341برقم1021)، وأورده الألباني في«الصحيحة» (3/1408) وحسنه.
(20) أخرجه أحمد في (7/112برقم19454)، وعبد بن حميد في «المنتخب»(1/271برقم304)، وأورده الألباني في «الصحيحة» (4/349برقم1756) وقال:"سنده حسن".
(21) أجلهن : أعظمهن. انظر: النهاية (1/287).
(22) أخرجه أحمد (2/102برقم3995)، والطبراني في «الكبير»(10/188برقم11414)، وقال أحمد شاكر في حاشيته على المسند(6/40):"إسناده صحيح. ولم يرد في الكتب الستة، ولم يذكر في مجمع الزوائد، فيستدرك عليه".
<منقول>
المصدر:رابطة الصحافة الإسلامية